عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط
تحديات كورونا كثيرة وعميقة، لم يسلم من تأثيراتها أي مجال، مازالت تلقي بظلالها على الدول والحكومات وحتى على الهيئات السياسية والمنتظمات الدولية، وفي بلادنا لسنا استثناءا في زحمة الوباء، مسنا ما مس غيرنا.
نبهنا في مقالات سابقة على أهمية تفعيل خطة الإنقاذ، والانخراط في مواجهة تحديات هذه الجائحة، وفي طليعة هؤلاء، الأحزاب السياسية، التي تضطلع بأدوار رئيسية، في قلب هذه المتغيرات، لأن المسار الديمقراطي بعد دستور 2011، منحها صلاحيات واسعة، في ممارسة القرار السياسي داخل مربع الحكم، لكن الملاحظ في زمن كورونا هو إحجام الأحزاب عن قيامها بدورها، لتفضل الانكفاء الذاتي، وخيار الانزواء إلى مساحات الضيق، بعد استمرار تفشي وباء كورونا، لم تبدع حلولا، ولم تملأ مساحات الفراغ على الرغم من التحديات الحارقة، التي تفرض مواكبة مستمرة حتى يتم تحيين سيناريوهات الخروج من أزمة الثّقة، التي هزت نفوس المواطنين، بسبب تداعيات الوباء الاجتماعية والاقتصادية عليهم.
لا يمكن في اعتقادي، تدشين دخول سياسي في زمن كورونا، سيكون في ظلّ عجز الأحزاب عن مواكبة المتغيرات وتلكم التحديات، وتعمد على تفادي تأزّم الوضع أكثر، من جراء حالة الاحتقان الاقتصادي الحاد، والذي من شأنه أن يكرس في ظل ضعف الأحزاب، العزوف التام عن المشاركة السياسية، فلا جدوى من خطابات سياسية بلغة الخشب، والتي باتت تطبعُ عمل الأحزاب، فلا يكفي تقديم مذكرات للخروج من أزمة كورونا، مالم تتحول الافكار إلى برامج سياسية مستعجلة، تخلق تعبئة عامة، فشئنا أم أبينا فقد أظهر وباء كورونا محدودية لدى الفاعلين السياسيين، و المنتخبين للتفاعل مع الوضعيات الجديدة والمفاجئة التي افرزها الوباء اللعين.
نحن بقدر ما نرفض الانخراط في خطاب التبخيس والنيل من مكانة عمل الأحزاب السياسية ودورها الدستوري في تمثيل المواطنين والمواطنات، فإننا نرفض أيضا استمرارها في حالة الشرود السياسي، والجمود، فكفاءات الأحزاب ليست بالضرورة دكاكين انتخابية تفتح عند قدوم الاستحقاقات، فهي من واجبها الاستعداد لممارسة الحكم، من خلال إفرازها لمؤسسات منتخبة ديمقراطيا، تعكس وجوبا الإرادة الحرة للمواطنين من خلال صناديق الاقتراع، وبرامج سياسية تحمل حلولا واقعية لكل التحديات، لأن الغاية في الأول والأخير، هو استرجاع الثقة التي تفقد يوما عن يوم في العمل السياسي.
في هذا السياق، كانت دراسة أنجزتها مؤسسة “الباروميتر العربي”، كشفت تراجع ثقة الشارع المغربي، بسبب حكومة العثماني، التي أظهرت ضعفا كبيرا في مواجهة تداعيات جائحة كورونا.
في نظري ينبغي على الأحزاب السياسية، أن تفتح أوراشا للتفكير، وتخلق بداخلها رأيا عاما، لا يمل ولا يكل، وتحول لقاءاتها ومؤتمراتها إلى تعبئة عامة، وحالة استنفار، في هذه الجائحة، لتحويلها إلى فرصة لبروز قدراتها التواصلية والفكرية بعيدا عن الانتظارية، فزمن كورونا محطة فارقة إما هي فرصتنا للنجاح او لتكريس مزيد من التصدعات واهتزازات التنظيمية، وسط خلافات لا يمكن أن تحسمها لغة الصم والبكم، لأنها للأسف لا تكرس إلا مزيدا من تأجيج الصراعات داخل هذه الأحزاب، تؤدي إلى مزيد من الانقسامات و الانسحابات والانشقاقات، في الوقت الذي يستوجب زمن كورونا مزيدا من التلاحم والتعاضد، والدفاع عن المصالح العليا للوطن، بعيدا عن تحالفات الريع السياسي، وتنظيمات الكارطيلات التي يغيب فيها منعدمو الضمير، كل شيء جميل، ليتحولوا في أزمنة الشدة إلى مصاصي دماء الوطن.
للأسف، أن تركيز الأحزاب السياسية على نظرية المؤامرة، وبأنها مستهدفة، هي بهذا تعلق فشلها على شماعة الآخر، فيكون نتاج هذا الفكر، هو على حساب وضع إستراتيجية واضحة، لتطوير هياكلها التنظيمية الداخلية، وتدبير مواردها البشرية بما يدعم تحقيق تلك الاستراتيجيات، وهذا لن يتم في اعتقادي إلا من خلال التركيز على أهمية التخطيط الإستراتيجي كوسيلة لتقوية قدرات الأحزاب السياسية للمشاركة بحزم في خطط الإنقاذ، وللاستجابة السريعة لهذه الظروف المتغيرة التي تفرزها تداعيات كورونا.
لكن ما يمنع الأحزاب السياسية من تشكيل إستراتيجيات ناجعة على المستويين المتوسط والبعيد، هو اعتماد سياسيات انتخابية آنية، والتي التي لا تهدف في أحيان كثيرة إلى التجاوب مع التحديات الراهنة، وهو ما يؤثر وجوبا على قدرتها في الاستمرار والمنافسة، ويفقدها ثقة الشعب، لأن المواطنين، لايعتبرونها قناتهم الطبيعية تمثلهم سياسيا، وتكون سبيلهم الوحيد في تحقيق آمالهم وطموحهم ومطالبهم.
لا يمكن للأحزاب السياسية، أن تحقق الاستدامة والقدرة على مواكبة المتغيرات والتصدي للتحديات، إلا من خلال تعزيز هياكل الداخلية وتكريس لحمة قوية من التجانس، بعيدا عن الإقصاء والهيمنة القبلية التي تنخر أجساد هذه الأحزاب السياسية المنخورة أساسا، لا سبيل لخروج هذه الأحزاب من كبوتها إلا بتعزيز قدراتها التنظيمية بشكل ديمقراطي، حتى يتسنى لكفاءاتها، التنافس على إنتاج الأفكار والتصورات والاضطلاع بالمسؤولية بعيدا عن المحاباة والمحسوبية.
إن استمرار الأحزاب، في تكريس خيار الانقسامات، يجعلها في موقف ضعف، غير قادرة على الأخذ بزمام المبادرة بقوة، لأنها تعاني من مظاهر اختلال كبيرة، ومن عدم وضوح رؤيتها لمهامها، خصوصا عندما تتحول، محطاتها التنظيمية، الى نزيف تنظيمي، يتسبب في مزيد من الانقسامات، بسبب استمرار ظاهرة “الكولسة”، والإقصاء”، وهنا تتم تصفية كل خيار جديد للإصلاح، بطرق غير ديمقراطية، من خلال تغلغل وتأثير لوبيات المصالح داخل الأحزاب.
إن تخلص الأحزاب من ضعفها في زمن كورونا، لن يتم إلا من خلال إعمال قواعد ديمقراطية داخلية، تكون الكفاءة هي الشرط الأساسي لتقلد المناصب والمسؤوليات، وليس الولايات للأشخاص والمصالح الذاتية، فمن دون ديمقراطية داخلية فإن الحياة الحزبية ستكون عاجزة عن لعب أدوارها في زمن الجائحة، وستكون في مقابل كل هذا مثقلة بالمشاكل التنظيمية التي تستنزف قدراتها التواصلية والتنظيمية، ومن كان مثقلا بالمشاكل والضعف، لا أعتقد أن يكون بمقدوره بلورة رؤى جديدة، وخطط الإنقاذ، ففاقد الشيء لا يعطيه.
عبد الرزاق الزرايدي بن بليوط: رئيس مجموعة رؤى فيزيون الإستراتيجية، ورئيس مكتب غرفة التجارة المغربية الإفريقية البرازيلية بالمغرب، ورئيس جمعية رؤى للتنمية والكفاءات