ياسين العشاري
تعيش الجارة والشقيقة تونس منذ مدة على وقع خلافات سياسية حادة بين مكونات المشهد السياسي بالبلاد، وهي الخلافات التي اشتدت في الأيام القليلة الأخيرة، جرّاء عملية سحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ “الشخصية المستقلة” المتوافَق حولها من طرف الأحزاب التونسية، وذلك بعد أن تعثر تشكيل حكومة برئاسة الحزب الحائز على الرتبة الأولى في انتخابات التشريعية الأخيرة، تبرر حركة النهضة صاحبة أكبر كتلة نيابية في البرلمان رفقة حلفائها قرار سحب الثقة من الحكومة التي تشارك فيها بستة وزراء، بكون رئيس الحكومة متورط في شبهة تضارب المصالح وهي التهمة المتابع بسببها من طرف القطب القضائي المختص بجرائم الفساد المالي. طبعا ليست هذه التهمة وحدها هي سبب إقدام النهضة على قرار سحب الثقة من الحكومة، بل كذلك توجهات وتصويتات بعض الفرق النيايبة التي تشكل الإءتلاف الحكومي بما يعني بشكل مباشر هشاشة هذا الإءتلاف، كذلك ضعف مردودية الحكومة في التدبير وخلافات أخرى تتعلق بالسياسة الخارجية والمواقف من بعض قضايا السيادة والقواعد الديمقراطية واحترام المقتضيات الدستورية.
الملفت للنظر مؤخرا في مجموعة من الأصوات الصحفية والسياسية في المنطقة وليس في المغرب وحسب، هو ركوب صهوة الأستاذية ومحاولة تقديم دروس للتجربة السياسية التونسية، في حين أن هذه التجربة في أهم درس في السياسة وفي الديمقراطية في المحيط الإقليمي، وهو الدرس الذي من المفروض أن ننصت إليه جيدا وبإمعان، وأن نستفيد منه كشعوب وكدول وكتجارب بالكاد تتهجى حروف الممارسة الديمقراطية؛ من بين هذه الأصوات الصحفية التي تطرقت للموضوع نجد الصحفي يونس دافقير المشتغل بجريدة الأحداث المغربية، حيث كتب مقالا ينعث فيه ما يحدث في تونس بالبذخ الديمقراطي غير المنتج، وبالإفراط في السياسة، وبأن عدم الاستقرار السياسي وتغيير الحكومات هو بمثابة المراهقة الديمقراطية، وأن ما وقع مؤخرا مجرد لقطة من فيلم سينمائي طويل بدأ منذ سقوط نظام بنعلي، فيما يشبه الحنين إلى النظام البوليسي للمخلوع، وكأن الحل الجميل و”المنتج” هو الاستقرار على النمط البنعلي، وهو قول يجتر ويعبّر بشكل ضمني عن الأطروحة المنهارة “التنمية دون ديمقراطية” . الغريب في الأمر وفي مقابل هذا التحسر عن عدم إنهاء الحكومات التونسية ولاياتها منذ سقوط نظام الطاغية وتداعيات ذلك على الوضع الاجتماعي والاقتصادي، هو الدعوات التي تعالت مؤخرا وهذه المرة في المغرب وليس في تونس إلى إنهاء ولاية الحكومة قبل أوانها، وليس بإجراء ديمقراطي كسحب الثقة كما يفعل نواب الشعب التونسي اليوم، بل بإجراء لا ديمقراطي هو حكومة تكنوقراط.
حين تغيَّر الحكومات وتَسقط ديمقراطيا ويتعثر تشكيلها لشهور في دول شمال المتوسط، ينبهر صحفيونا ومثقفونا وينعثون الأمر بالممارسة الديمقراطية الحرة، كما حدث في السنوات الأخيرة في إسبانيا وفرنسا وألمانيا وغيرها، وحين يحدث نفس الشيء في بلداننا نحن وفي النموذج التونسي محل النقاش بالأساس كتجربة رائدة في المنطقة المغاربية والعربية، يخرج البعض ممن لا يُطربه أن تتعلم الشعوب الديمقراطية وتتمرن على ممارساتها، وتسقط وتقوم إلى أن تنحث تجربتها الخاصة، يتم نعث ذلك بالتضخم السياسي غير المنتِج وبالإفراط في إسقاط الحكومات وبالمراهقة السياسية وبالبذخ الديمقراطي!؟!
وفي تأويل أعتبره مجانب للصواب لنسب المشاركة في الاستحقاقين الإنتخابيين البرلماني والرئاسي في تونس، فسّر دافقير ارتفاع نسبة الأصوات التي تحصل عليها الرئيس مقارنةً مع نظيرتها من أصوات في الانتخابات التشريعية، بأن ذلك يعني أن الناخبين بعثوا رسالة مفادها أنهم يميلون إلى شكل النظام الرئاسي (الذي كان معتمدا قبل الثورة) أكثر من ميليهم إلى النظام البرلماني (القائم اليوم في تونس). وهذا تأويل مَعيب حتى لا أقول تلاعب بالحقائق، فصحيح أن رمزية الرئيس لا زالت كبيرة في وعي التونسيين بالنظر إلى عقود من الزمن كانت البلاد تعتمد هذا الشكل من الحكم، لكن ما أغفله أو تغافل عنه صديقنا يونس، هو أن الأصوات تشتتت بين الأحزاب في الانتخابات البرلمانية، في حين أن الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية اجتمعت الأصوات لتتفرق بين مرشحين فقط، مع العلم أن أصوات العديد من القواعد الحزبية بعد المرور للدور الثاني ذهبت للرئيس الحالي، بتوجيه من قيادات ومؤسسات الأحزاب السياسية.
أجدد وأقول أنه كان حرِيّا بصحفيينا ومثقفينا المهتمين بقضايا الشأن السياسي الوطني والإقليمي، وتونس بالخصوص كنقطة اندلاع الانتفاضات الشعبية التي حركت مياه السياسة الآسنة في المنطقة، بدل التوجه لمهاجمة السياسيين بكافة ، وجعلهم في سلة واحدة، أن يتساءلوا عن مَن هي القوى التي تجر تونس وتُصر دائما وفي كل محطة مفصلية إلى جرّها إلى مستنقع النزاعات السياسية والاضطرابات الأمنية والتراجعات الاقتصادية، أليس أولئك الذين يتدثرون بعباءات سياسية ممن استفادوا من عدم تطبيق قانون العزل السياسي؟ والذين باثوا اليوم يقدمون أعمال المناولة لمافيات الاقتصاد تارة وللمصالح الاستعمارية والخارجية تارة أخرى، بهدف إفشال التحول الديمقراطي ووضع العصا في دولابه كلما أخذ قطار هذا التحول الديمقراطي مساره، ليتحمل في الأخير الشعب التونسي ضريبة عدم الاستقرار السياسي وتداعياته على الوضع الاجتماعي والمعيشي، وينتبهوا إلى أن هذا الشعب يُثبت في كل مناسبة أن له من الوعي السياسي الشيء الكثير، وأن الخبز صحيح مهم لكنه ليس أكثر أهمية من الحرية.