ياسين العشاري
كان أفلاطون يرى أن الأشخاص الأنسب لممارسة السياسة والحكم هم الفلاسفة، طبعا هذا الرأي وقياسا إلى معطيات الواقع واستنادا إلى شواهد التاريخ، لا يمكن أن يكون صحيحا على الدوام وبالمطلق. إنما فقط الغرض من استدعائه في هذا المقام هو الانطلاق منه للإسهام في إضاءة ما يحدث في فرنسا هذه الأيام، وذلك بالقيام بمحاولةٍ للمقارنة بين سياسة من سياسات فرنسا وفلسفة من فلسفاتها، بين القرارات التي اعتُبِرت لامسؤولة للسياسة الفرنسية من خلال تصرفات تبدو طائشة للرئيس إيمانويل ماكرون من جهة، وبين بعض الطروحات الناضجة في الفلسفة الفرنسية من خلال عدد من الأفكار المستنيرة للفيلسوف إيمانويل مونييه من جهة ثانية، في موضوع الحرية والحريات، حيث يَبرز بجلاء حجم الهوة الصارخة بين النظرية الفلسفية والتجربة السياسية في السياق الفرنسي، بين بريق المثالية على مستوى الفكر الفلسفي وانحطاط البراغماتية على مستوى الواقع السياسي، تظهر هنا كذلك بشكل فج وفاضح ثنائية “العالم والسياسي” بلغة ماكس فيبر متجسدةً في هذا التناقض بين “الإيمانوِيلَيْن” الفرنسيَّيْن.
ينتقد الفيلسوف الفرنسي المعاصر إمانويل مونييه (1905–1950) رائد التيار الشخصاني بفرنسا، النموذج العلماني “اللائكي” المتشدد، وقد أنشأ مونييه “مجلة الروح” سنة 1932 لهذا الغرض، ودعى عبرها إلى مناهضة الجوانب المفْرطة في المادية في الحضارة الأوربية وفي فرنسا على وجه التحديد، الشيء الذي جعلها بحسبه تعاني من أزمة روحية حادة، ولعل هذا الأمر يفسر بعض ما يحدث في فرنسا المعاصرة إثر تراكمات وخيارات قديمة لا زال أثرها قائما، واليوم بشكل أكثر وضوحا، في ما يرتبط بالجانب الروحي لمواطنيها. وفي هذا الاتجاه دعا مونييه إلى قيام التربية على ثورة روحية تعيد الوحدة والتوازن بين الروح والمادة في شخصية الإنسان، وأن تتأسس هذه التربية على نزعة إنسانية تنظر إلى الشخص باعتباره كائنا يعيش في إطار اجتماعي كوني، منفتح على الأشخاص الآخرين في المجتمع على اختلاف معتقداتهم وعلى أساس احترام هذه المعتقدات، وفي الكون بشكل عام أي على المجتمعات في تعدديتها الثقافية، والتمتع بروح متسامحة إزاء كل الأديان.
من ناحية مغايرة تجسد المواقف والخرجات الإعلامية الأخيرة للرئيس الفرنسي ماكرون وسياسات حكومته، توجُّهاً متجذراً داخل دواليب الدولة وفي خطاب عدد كبير من النخب السياسية والثقافية على حد سواء، يخفت حينا هذا التوجه أو يدخل في مرحلة كمون، ثم يطفو على سطح الخطاب وضمن السياسات العمومية المتعلقة بالهجرة والجنسية والاندماج حينا آخر، وهو توجه في عمقه يعبر عن كراهية وعنصرية وإسلاموفوبيا في التعامل مع الإسلام والمسلمين، على نحوٍ فيه الكثير من الانتقائية، وأن ما يحرك الموقف الرسمي الفرنسي هذا، هو حسابات ورهانات أخرى إديولوجية وسياسوية وانتخابوية، غير ما هو معبر عنه من حماية الحرية وقيم الجمهورية، هذه الرهانات منها ما هو داخلي يرتبط بالتحكم في الخيارات الفردية للمواطنين الفرنسيين المنتمين للإسلام وما يترتب عن ذلك من تزايد النشاط المدني الإسلامي في علاقة ذلك بما هو أيديولجي وانتخابي من جهة، ومنها ما هو خارجي يتعلق بالصراعات الإقليمية مع منافسين صاعدين، وقوى تحررية طامحة للتخلص من إرث التبعية بأنواعها في المستعمرات السابقة، يتقاسمون مع شرائح عريضة من المواطنين الفرنسيين نفس المرجعية الدينية والفكرية.
وفي سياق حديثه عن معنى الحرية، يتناول الفيلسوف الفرنسي إمانوييل مونييه هذا المفهوم، من خلال ما يعتبره حريةً بشروط، تراعي الذات في أبعادها النفسية والبيولوجية، وتراعي العالم في تجسده المادي، وتراعي قيم المجتمع الذي تمارَس في إطاره؛ والذي يهمنا هنا هو هذا المستوى الثالث، أي “الحرية أمام القيم”، حيث أن الصدام مع مختلف القيم الموجودة في المجتمع وأنت تحاول توسيع هامش هذه الحرية لديك، إنما قد يؤدي إلى نقيض ذلك أي تقليص هذا الهامش، في حين أن استثمار هذه القيم وأخذها بعين الاعتبار يقوي الحرية ويحصنها، إن الأمر شبيه بمجرى الماء، حيث يقوى الصبيب حين تضيق قليلا ضفاف الوادي، والعكس يضعف حين يتسع المجرى بشكل كبير، الحرية المنفلتة من كل عقال تنقلب إلى نقيضها، في حين تجد في القيم وما يترتب عنها من ضوابط ارتكازا يقويها ويحصنها ويضمن استدامتها. يرى منييه كذلك أن التحرر إنما يتحقق عبر عملية التشخصن أو الشخصنة بالانتقال من وضعية “الكائن” (المتقوقع حول ذاته) إلى وضعية “الشخص” (المندمج مع الآخرين دون الذوبان فيهم)، باعتبار أن هذه العملية هي عملية انفتاح واقتلاع للذات نحو الخارج الاجتماعي بأفق إنساني رحب.
ومن الغريب حقا أن لا تلتفت فرنسا الرسمية إلى بعض أدبيات فلاسفتها في موضوع الحرية كهذا الطرح الذي تقدمه الشخصانية. وهنا يمكن التساؤل، ما بال السلطات الفرنسية تعجز في أن تتقبل مواطنيها الذين اختاروا مرجعية دينية معينة بما يترتب عنها من خيارات مجتمعية ومسلكيات اجتماعية وتوجهات فكرية وسياسية، ما داموا يحترمون شرط الوطنية والمواطنة، بأن يقبلوا العيش مع الآخرين تحت مظلة الحق والقانون، دون أن يقبلوا أن يبقوا رهناء لدى قراءات دينية منغلقة ومتشددة، تجعلهم يعيشون في گيطوهات فكرية مُسَيَّجة حتى وهم في قلب باريس. بل يمكن أن نوسع هذا التساؤل الإشكالي المرتبط بفهم الحرية والسياسات المتعلقة بها في ارتباط بالدين والقيم الدينية والجانب الروحي للإنسان، ليمتد إلى واقع الصراعات الأيديولوجية داخل المجتمعات المسلمة نفسها، بأن تقوم النخب الثقافية والتيارات السياسية والمدنية والحقوقية، التي تُحسب على كونها علمانية يسارية كانت أو ليبرالية بمساءلة نفسها، حول موقفها الفكري والسياسي من قضايا الديني في علاقته بالاجتماعي وبالسياسي والتدبيري، وتعيد النظر في تمثلاتها الفردية والجماعية والتنظيمية حول هذا الموضوع.