قبل تسعة أعوام، رحل عن عالمنا الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ولكَمْ كان رحيله صادمًا مؤثِّراً بالنسبة إلى كثيرين من محبّيه وقرائه عبر العالم؛ فقد كان في أوج عطائه الإبداعي وكانت مقترحاته في صميم تجربته الشعرية تتوالى بشكل مدهش ونادر.
في ذلك التاسع من أغسطس /آب 2008، توقف قلب الشاعر بعد عمليّة جراحية له، ولم تشأ الأقدار أن يخرج ظافراً منها بالحكمة والشعر، كما حصل في عامي 1984 و1998؛ فقد بدا أنّ الأسطورة التي نهضت من ملل امتلائها ومن زخم بلاغتها وقعت على بياض هو ذاك البياض ذاته الذى حرّره من تاريخها، وارتفع بشعره إلى مرتبة الشّعر الصافي الذي كان يحلم به حتّى سعى إليه بقدميه. هكذا كان الشاعر قد رمى بالنّرْد بين أكفّنا المعروقة، وخلد إلى الأبد حيث يأخذه الإيقاع إلى ضفاف أخرى، لا هي شرقيّة ولا غربيّة. مات الشاعر لتحلّ مكانه الأسطورة، التي انبثقت من جراح المعنى، من معنى التاريخ إلى ضياعه في سيرة الذات وأحوال البلاد. وكانت هذه الأسطورة قد تكوّنت، لآمادٍ وحيواتٍ، في الشعر وعبره.
ليست هذه الأسطورة سوى ما كان يعنيه الشاعر نفسه بأنّها “ذاكرةٍ متخفّية، لتحمي الشعر من غلبة الجيش على الإيقاع وعلى تاريخ القمح، ولتحمي الزمن من هيمنة الراهن”. كان للمأساة الفلسطينية تأثير بالغ في تشكيل ملامح الأسطورة؛ حيث يتّخذ شعره وجه الأسطورة التي تحيا بجراحها الجماعية والذاتية، وتجعل من أخلاقيّات عملها المعرفي والجمالي صورة القصيدة التي كتبها وكابد من أجلها باستمرار. داخل غنائيّته الخاصة والمحتمية بندوبها، يتآلف التاريخ والحداثة والذات، ولا يُخطئ العمل عبرها قول الحقيقة ويحرص على أن تتردد في الآتي، في مجهول معناها.
داخل الأسطورة، بوصفها إمكاناً ذا أهميّة قصوى في البحث عن حركة المعنى، الحيويّة والمهدّدة أكثر، التي تعود بالقصيدة إلى بعدها الأول وإلى بلاغتها الأولى، كانت تتحرّك شعريّة محمود درويش. لهذا نجد في كلّ عملٍ شعريٍّ له، بعد “ورد أقلّ” على الأقلّ، قاعاً أسطوريّاً يضيء استعاراتِ وحلولاً ممكنة لتجربة الغياب التي تصطرع في وعي الذات التي سلبها الآخر تاريخها بالأساطير المحفورة بالنار والحديد. كان يصنع الأسطورة الفلسطينيّة خارج الصور النمطيّة التي تكوّنت عنها، وصارت عبئاً عليها، بعد أن كثّفها في روحه وارتفع بعذابها الأرضي إلى مرتبة الإنساني العالي، ولم يعد يرهنها بالشعاري والسياسي الضيق، التي حوّل مفرداتها إلى مادّة ضجر.
لاستعادة الشاعر وصورته وأسطورته، طرحت “القدس العربي” مثل هذه الأسئلة على بعض شعراء العربية الذين عاصروه وتابعوا مشروعه الجمالي: ما هو وضع الشعر الفلسطيني اليوم؟ وإلى أي حد استطاع أن يتحرر من أسطورة محمود درويش؟ وماذا تبقى من هذه الأسطورة نفسها في راهن الشعر العربي؟
مشروع الشاعر
يرى الشاعر الفلسطيني غسان زقطان أنّ “مشروع درويش الشعري قائم ويتمتع بحيوية مدهشة وقدرة على التأثير، التجربة الثرية التي تركها محمود درويش عبر منجزه الإبداعي تذهب أبعد وأعمق وتتعرض لقراءة مختلفة في كل مرة. القراءة التي تغتني بالراهن تمنح مثل هذه التجربة الخاصة غنى وحضورا وتضيء على ظلالها في كل مرة. لقد كان رحيل محمود مؤلما وصادما، بدون شك، ولكنني أرى أن استعادة حضور الشاعر تكمن في قراءته، قبل كل شيء. ما زلنا نقرأ المتنبي بعد عشرة قرون من رحيله، ونصطدم بمجايلته وجديده وحداثته وتأثيره الراسخ في مناطق كثيرة من تجارب الراهن، هذا ينطبق على امرؤ القيس وطرفة والشنفرى والحمداني والمعري… إلى آخر هذه القافلة المذهلة. لعل هذه القوة التي يتمتع بها الشعر العربي بتواصله وحضوره، تميزه عن ثقافات أخرى”.
وبحكم الهالة التي تمتع بها محمود درويش، سألنا غسان عما إذا غدا الشاعر حجاباً للشعر الفلسطيني، أم دافعاً لتجديده وتطوير جمالياته؟ فقال: “شكل مشروع درويش تحديا مركزيا في المشهد الشعري الفلسطيني والعربي، في كل مرحلة من مراحل منجزه، بما فيها مرحلة البدايات المبكرة التي ارتبطت بالمقاومة وتداخلت مع الإيديولوجيا وتأثيرات قوية لشعراء آخرين، مثل، نزار قباني، لعل جغرافيا البدايات وزاوية التناول منحتا تلك القصائد المباشرة، بنبرتها السياسية الواضحة والقاموس الجديد الذي يخاطب العدو عبر تماس جسدي، حضورها وتأثيرها الذي لا يزال متصلا إلى الآن”. وتابع: “سيذهب محمود أبعد في مشروعه في المراحل اللاحقة، وسيدخل مناطق شبه محرّمة، مستفيدا من الجغرافيا ومعرفته الخاصة بثقافة الآخر واحتكاكه اليومي بمجتمع طارئ، يخفي قلقه الوجودي تحت قناع عنصري ويستمد أحداث روايته من خليط غيبي ومادي.
في تلك النصوص قدم محمود هويته بقوة ووضوح، ولكنه جرد العدو من أكثريته واستدرجه كفرد في ما يشبه اكتشاف الشق في الجدار، فظهرت نصوصه الجديدة تماما على الذائقة العربية، مثل “ريتا” أو “جندي يحلم بالزنابق البيضاء”؛ لقد استطاع بضربة واحدة أن يؤنسن العدو ويعيده إلى عاديته، وفي الوقت نفسه أن يدرب الذائقة العربية على تقبل عدو يمتلك هيئة بشرية وأن يعمق مفهوم “المقاومة” ويمنحه أفقا جديدا.
حتى في نصوص مثل “سجل أنا عربي”، استطاع درويش أن يقدم صورة للعدو المنتصر الذي لن ينجز انتصاره على الهوية. “العدو المنتصر” لم يكن موجودا في النص الفلسطيني والعربي بالوضوح الذي قدمه به درويش، حتى في ما بعد عندما تتالت “انتصارات” العدو، واصل الشعر الفلسطيني الحديث عن عدو بلا ملامح حقيقية، بلا حضور جسدي وبلا ظل، عدو ميت ولكنه يواصل انتصاره خارج القصيدة، أو الحديث عن الخسارة التي تسبب فيها “شبح” بمرتبة عدو. درويش ذهب مباشرة إلى عدوه وفككه ومنحه ملامح، وضوح العدو سينعكس على وضوح المقاوم وسيمنح الصراع بُعدا واقعيا يفتقر إليه، وهو ما فعله درويش.
سيكون من السهل هزيمة شبح وتحميله وشحنه، ولكنْ سيكون صعبا وواقعيا مواجهة عدو حقيقي، مادي، يمتلك تناقضات ونزعات إنسانية بمعانيها المركبة؛ هنا تصبح المعرفة والثقافة هما البنية التحتية للنص، بديلا عن البلاغة السائدة، التي تخفي عجزها وهزائمها وراء حيلة اللغة. ثمة إضافات كانت حاضرة في كل مراحل مشروع درويش، إضافات متكئة على معرفة مختلفة وثـقافة مختلفة. وهو ما لم يتوفر لمجايليه من الشعراء الفلسطينيين”.
الشاعر والقضية.. أي تأثير؟
في علاقة الشاعر بالقضية، يستنتج الشاعر الفلسطيني لطفي خلف أنّ “ما كتبه درويش شعرا في القضية والثورة لم يكتبه من أجل أن ينال لقب شاعر الوطن والقضية وينال أوسمة الثورة، ويصبح بالتالي رمزا للثورة فحسب، وإنما فجّر ثورة في الشعر، فخلق للشعر روحا وطعما وصلب المتلقي على خشبة الانتظار، ليشعر بلبن الكلام يسيل على شفة المتعطش منا إلى المطالعة، وتجعلنا نقف على رؤوس أصابع التفاؤل،كلما سمعنا خبرا عابرا عن نيته طرح قصيدة جديدة في صحيفة أو مجلة أو على شاشة إحدى الفضائيات. درويش، الذي عجن صلصال شعره بماء النكبات الفلسطينية المتتالية، لم ترفعه القضية الفلسطينية وحدها إلى المستوى الكوني الذي وصل إليه،و إنما النفق الذي حفره بعضلاته الإبداعية تحت رمال مفردات اللغة واقتحامه نار الفكر ودروبه الوعرة بسهولة ويسر وعن طيب خاطر، لكونه موهوبا من الدرجة الأولى وعاشقا للثقافة والكتاب والشعر، وجهده الخاص وثقافته العالية وفلسفته في الحياة والطبيعة وقضايا الإنسان.. هي ما جعله يشعل ثورة حقيقية في الشعر، لم تخفت نيرانها ولم يهدأ أوارها حتى بعد غياب من أشعلها. لقد زاوج درويش بين مطلب القضية بتحرير الأرض والإنسان من قيود الاحتلال، وبين الهمّ الجمالي الذي يحمله بين سطور قصائده”.
ويذهب الشاعر السوري أديب حسن إلى أن “القضية الفلسطينية أثرت على النصف الأول من تجربة درويش، فحصرتها في حدود تعبيرية محددة، لم يتجلَّ خلالها الاختلاف عن أبناء جيله، كسميح القاسم وتوفيق زياد وغيرهما، فقد كانت سمة القصيدة الفلسطينية في تلك الفترة عامة هي الحماسة والمباشرة، ما ألغى الفروقات بين التجارب الشعرية وجعلها تدور كلها في الفلك ذاته”. غير أن الشاعر استطاع -في ما بعد- الخروج من المباشرة إلى الموضوعات الشعرية الكبيرة، ومن ثم التفاصيل الإنسانية الصغيرة، التي هي مثار اهتمام مشترك بين البشرية جمعاء. وطبعا، خفت النبرة الحماسية المعتادة لحساب صعود الفنية العالية للقصيدة، التي استطاعت هذه المرة تقديم فلسطين بصورة غاية في الاختلاف، وقادرة على الصمود في السياق الجمالي”.
ولا يجد الشاعر والناقد المغربي عبد السلام المساوي أن “القضية الفلسطينية كانت مؤثرة سلبياً على تجربة درويش الإبداعية، بل على العكس من ذلك، فلولاها لما استمتعنا بأروع قصائده، كــ”مديح الظل العالي” و”أحمد الزعتر” و”ريتا” وغيرها من الخالدات في عالم الشعر. والشعر الجميل لا يُكتب بعيدا عن الامتلاء بالتجارب. ومحمود درويش لم يكن بوقاً مباشرا للقضية، بل كانت القضية حافزاً على الامتلاء بالشعر”. وتابع المساوي: “ظل محمود درويش، طوال كفاح الشعب الفلسطيني، الصوتَ الصافي الذي يصدح بأطوار هذا الكفاح، لا مرددا أو محاكيا لما يجري في الواقع الفلسطيني؛ بل خالقا أو هاجسا بما ينبغي أن يكون عليه هذا الواقع. لقد أدرك -من هذه الناحية- ومنذ الوهلة الأولى أن وظيفة الشعر عنده تكمن في إعطاء فلسطين هويتها عن طريق مضاعفة الصور والمعاني التي تكثف حضورها، وكان مؤمنا بأن المتخيل يحمي ما يرغب التاريخ في تحطيمه”.
الشاعر في الذاكرة والمستقبل
لا ينكر معظم الدارسين الدور الريادي الذي اضطلع به محمود درويش من أجل الشعر العربي في سيرورة تحديثه. ففي رأي أديب حسن “كان لدرويش دور مركزي وصميمي في الارتقاء بهوية القصيدة العربية الحديثة. فإذا كانت مواضيع الشعر الرئيسة هي هي على امتداد تاريخ الشعر، فإن الأسلوب بلا شك هو الذي يُحْدث الفارق، وهذا ما فعلته تجربة محمود درويش في نصفها الثاني، بعد أن تجاوز أسلوب مجايليه المباشر محدود الدلالات والآفاق”، بل صار مؤثرا على الأجيال التي جاءت بعده، إذ إن “غالبية الشعراء اليوم يستحضرون درويش، خاصة شعراء التفعيلة، الذين لا تكاد تخلو تجربة من تجاربهم من أثر درويش، سواء في المناخات أو العبارات أو طرق الصياغة، الأمر الذي يظل -في حدود معينة- قابلا للفهم”. وقال لطفي خلف: “كان لدرويش أكبر الأثر في تحديث الشعر العربي، فقد استهل بداياته في أواخر ستينيات القرن الماضي بشعر التفعيلة، إذ تأثر بالسياب والبياتي وغيرهما من الشعراء العرب في مصر وسوريا والمغرب العربي”. غير أن للناقد المصري رضا عطية رأيا آخر، بقوله: “لا نستطيع أن نرى درويش في دور المحدِّث أو المجدد؛ لكننا نرى درويش قد أضاف لسابقيه في المضامير التي خاض فيها وراكم بإسهامه على تجارب أسلافه”.
وفي نظره، فإن ما كان يعني محمود درويش هو أن يحدّث تجربته الشعرية من الداخل؛ إذ “مرت بتحوّلات دالة، نستطيع أن نكثفها في مراحل ثلاث على صعيدَي المستوى الصوتي والموسيقي والمستوى الرؤيوي؛
ـ مرحلة الغنائية المفرطة، إذ كانت تتسم قصيدته بجهارة موسيقية وصخب إيقاعي على صعيد موسيقى الشعر، مع انصباب جل اهتمامه في هذه المرحلة -موضوعاتيًّا- على القضية الفلسطينية بشكل كبير؛
مرحلة إقامته في فرنسا من منتصف الثمانينيات حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي، تلك المرحلة التي زاوج فيها بين الهم الوطني والهم الإنساني من ناحية الموضوع الشعري، كما هدأت حدة الإيقاع وارتفاع الصوت الموسيقي؛
أما المرحلة الأخيرة فهي تبدأ من منتصف التسعينيات حتى رحيله في 2008، والتي غلب على شعره فيها خفوت الجهارة الموسيقية والتخفف إلى حد كبير من القافية، في ما يعرف بـ”الشعر الأبيض”، مع غلبة التأمل الفلسفي والتحديق في مرايا الوجو،د بالبحث في الأسئلة الوجودية الكبرى، فكانت قصيدته أو بالأحرى مطولته الخالدة “الجدارية”، التي تكشف عن نفَس شعريّ طويل”.
غير أن الشاعر، بحكم منجزه الإبداعي ومقترحاته التي قدمها للشعر الإنساني، وصورته في التلقي الثقافي العام، يتجاوز زمنه باستمرار. “لقد اضطلعت قصيدة محمود درويش -بتعبير عبد السلام المساوي- بامتصاص كل مخزوناته الثقافية والجمالية من معيشه ومقروئه، وأعادت إفرازه في مستويات إبداعية متنوعة، ولكنها تضع هذه المستويات في خط فني متلاحق عرف الشاعر كيف يحبك تفاصيله. فمن لحظة شعرية إلى أخرى، ومن حركة إلى حركة، يعرض علينا الشاعر شريط التاريخ الإنساني بكل حمولاته التاريخية والأسطورية والفنية في توليفة إبداعية لا يقوى على حذقها إلا شاعر موهوب من طرازه، توليفة تستنجد بغنائية خفيفة، وهي تعانق أفقاً حداثيا، مع الإبقاء على تواصل خاص مع القارئ. ومن هنا، يكون محمود درويش هو الشاعر الذي يخترق كل الأزمنة ليحسن نحت زمنه الخاص أو ليعرف كيف يضع ذاته أمام التجارب الجمالية الخالدة”.
بعد تسع سنوات، تأثر الشعر العربي بغياب محمود درويش؛ ففي نظر لطفي خلف “كان درويش مدرسة شعرية نمطية في نقل هموم شعبه إلى العالم بلغات قصائده الساخنة المترجمة، سواء كانت من خلال ديوان منشور أو نقاش أدبي أو أمسية شعرية في كل البلدان التي كان يتنقل إليها دائما، بل كان لغيابه الأثرُ الكبير في نفسيات ومعنويات شعراء فلسطين والعالم العربي بأسره”. كما كان، في نظر أديب حسن، “شاعرا مُسوّقاً له، وهذه نقطة مهمة جدا يجب عدم إغفالها، إذ أنه إن كل ديوان جديد له كان يرافقه الكثير من الجدل والمواكبة النقدية، إضافة إلى تجاوزه المستمر لمنجزه الشعري مع كل إصدار جديد، ما جعله بؤرة نشاط وجدل مع كل إطلالة شعرية جديدة له”.
وقال عبد السلام المساوي: “ونحن نستحضر ذكراه الخالدة، فإننا نستشعر فراغاً كبيراً خلفه فقيدنا العزيز.. فراغاً انعكس على نكهة الشعر، وعلى الحدث الثقافي الذي كان يخلقه صدور دواوينه، وكانت تخلقه أيضا مقالاته وأفكاره، وفراغا زلزل القصيدة العربية المعاصرة حين فقدت بوصلتها التي كان يلوح بها الشاعر محمود درويش”.