24 ساعة- محمد أسوار
أحداث كثيرة طبعت التاريخ المعاصر للمغرب، وألقت بظلالها، إيجابا أو سلبا، على الشأن السياسي والاقتصادي والفكري للمملكة، بعضها يتذكرها الجيل الجديد من المغاربة وأخرى صارت في خبر كان.
في هذه الزاوية والتي تنشر على شكل حلقات رمضانية، تنبش ” 24 ساعة” في الذاكرة المغربية، من خلال محطات بارزة، سواء كانت أحداثا أو شخصيات، طبعت حقبة معينة من تاريخنا المعاصرة.
الحلقة الثانية: سعيدة عباد.. تسلمت المقود من أبيها وقال لها الحسن الثاني “تبارك الله عليك انت سائقة محترفة”..
دخلت المغربية سعيدة عباد التاريخ من بابه الواسع، باعتبارها أول امرأة مغاربية وافريقية وعربية تقود القطار وتصير سائقته. ليس هذا فحسب، فهذه المرأة التي ولدت سنة 1965 بالعاصمة الاقتصادية الدار البيضاء، كان لها شرف قيادة قطار كان يقل الملك الراحل الحسن الثاني نحو مراكش وذلك سنة 1999.
نقطة البداية
يرجع السبب في رغبة سعيدة عباد في أن تصبح سائقة قطار، إلى والدها الذي كان بدروه يمتهن هذه المهنة. انقطعت سعيدة عن الدراسة بسبب ظروف خارجة عن إرادتها للتتفرغ لمهنة أبيها. تقول في هذا الصدد أنها بعد أن قضت سنوات الدراسة الاعدادية ثم الثانوية بعد ذلك باحدى المؤسسات التعليمية بمدينة افران. لم يسعفها الحظ من اتمام مشوارها التعليمي بسبب بعد الجامعة التي كانت تتابع فيها دراستها، وما يتطلبه ذلك من تنقل يومي عبر الحافلة. واضطرت مكرهة للانقطاع لتدخل عالم السكك الحديدية. وتتذكر تلك اللحظات بمرارة بقولها “نسق حياتي كان بطيئا جدا ومملا للغاية، كنت سيدة بيت انقطعت عن الدراسة وتنتظر زوجها وأبناءها كل مساء، لكن الأمر تغير في لحظة.. كأن شخصا طوى ذلك الكتاب وأعاد فتح آخر لسيدة تخطو نحو النجاح الأسطوري”، تقول سعيدة عن نفسها واصفة نقطة التحول الاستثنائية التي غيرت مسارها.
رغم ذلك؛ صنعت سعيدة عباد مجدها بطريقتها الخاصة، بعد أن صارت أول إمرأة مغاربية بل وافريقية وعربية تقود القطار، كما أنها كانت خلف المقود في رحلة كان على متنها الملك الحسن الثاني في اتجاه مراكش شهر مارس من سنة 1999. كما أن الملك محمد السادس أثنى على عملها خلال لقائها به في إحدى المناسبات وقال لها، وفق ما ذكرته لموقع “أصوات مغاربية”: “أنت من قدت القطار بأبي إلى مراكش ذلك اليوم”.
تسلمت سعيدة عباد المقود من أبيها أواخر التسعينات؛ ولا عجب أن يثير ذلك حفيظة من يرون أن إمرأة مثلها لا يجب أن تصير سائقة قطار، بحكم أن هذه المهنة ظلت ولا تزال حكرا على الرجال.
وتقول عن ذلك لنفس المنبر: “في بداية مشواري خلف مقود القطار، أي قبل 15 سنة وبالضبط سنة 1999، واجهني الناس بالتهكم، خاصة بعض السائقين زملائي، أما في حالة وقوع عطب تقني وتوقف القطار فيصل الأمر إلى السب من طرف الركاب.. فقط لأنني امرأة”. مضيفة أن مسارها المهني لم يكن دائما مفروشا بالورود، خصوصا في بدايته، لكن سمعة ابيها الطيبة والاحترام الذي كان يكن له الجميع؛ كان يخفف من حدة معاناتها.
مأساة دهس طفلة.. وفرح من ثناء الحسن الثاني
لم تسلم سعيدة عباد من بعد الصدمات في مسارها المهني؛ فرغم أنها تستحضر ذكريات جميلة حين كانت سائقة قطار؛ إلا أن ذهنها لايزال يحتفظ ببعض المآسي التي وقعت أمام أعينها منها حادثة مأساوية أودت بحياة طفلة في الثالثة عشر من عمرها، حين حولها قطار إلى أشلاء في السماء. وأكدت أن ذلك تسبب لها في أزمة نفسية دام أزيد من شهرين لم تخرج منها سوى بمساعدة الأطباء، ولا زالت تتذكر ذلك بكثير من المرارة.
في المقابل تخللت حياة سعيدة ذكريات جميلة حين كانت سائقة للقطار؛ من أبرزها تلك اللحظات التي جمعتها بالملك الراحل الحسن الثاني ، و كيف ركب قطارا قادته هي بنفسها، مشيدا بحرفيتها في القيادة، حيث أخبرها بعبارة لن تنساها مدى الحياة “تبارك الله عليك كأنني أمام سائق محترف” ؛ وفق ماصرحت به لموقع “إيلاف”، ويبرهن ذلك على أن المرأة المغربية، شأنها شأن الرجل استطاعت أن تكسر جميع الحواجز وتقتحم مهنا كانت في وقت سابق حكرا على الرجال.
حياة مابعد القطار
قررت سعيدة، بعد سنوات عديدة، أن تترك مقود، القطارات وطرق السكك الحديدية وما يأتي منها، خلال أبريل من سنة 2007، بسبب مشاكل صحية من جهة، وايضا رغبتها في التفرغ لعائلتها من جهة ثانية. تقول عن هذا القرار “كانت لحظات صعبة.. عندما أدركتُ أنها آخر رحلة، ذرفتُ دموع الفراق مع المكان الذي صنع اسمي وحملني إلى العالمية”.
وتقطن سعيدة، التي تزوجت في سن مبكرة أي حين كان عمرها 22 سنة فقط؛ بمنزل والدتها بحي “الصخور السوداء” بالدار البيضاء، حيث تقضي معظم أوقاتها بعد تقاعدها عن العمل.
تقول سعيدة عباد إن حصولها على التقاعد لم ينه علاقتها الروحية و الوجدانية بالقاطرة، بل على العكس، فقد واصلت عملها من خلال نضالاتها في صفوف الإتحاد المغربي للشغل.
وأوضحت عباد، على هامش فعاليات مؤتمر للنساء العاملات في مجال النقل الذي نظمه الإتحاد الدولي لعمال النقل، أنها تعرضت للإهانة أكثر من مرة في مسيرتها المهنية، بسبب احتجاجات المسافرين، خاصة عندما يقع عطب تقني أو ما شابهه ويتعطل القطار، وهي أمور اعتبرتها خارجة عن إرادتها، ومع ذلك فإن أكثر العبارات السيئة التي كانت تسمعها بسبب ذلك كانت تصدر عن مسافرات نساء.
وعن اقتحامها لهذا المجال “الرجالي” ، أكدت سعيدة عباد أن صورة المرأة التي تعمل في مجال النقل تغيرت كثيرا عما كانت عليه سابقا، وأنها تشعر بالسعادة والفخر عندما تطلع على تعليقات فتيات على صفحتها بمواقع التواصل الإجتماعي وهن يبدين رغبتهن في ولوج مجال النقل الذي لم تكن النساء تقوين حتى على الإقتراب منه.
وعن إكراهات العمل في مجال النقل، قالت عباد إنه من بين أكثر القطاعات صعوبة، لأنه يجعل السائقة تدخل في مواجهة مع الزبناء، خاصة سائقات سيارات الأجرة، مع ما يصاحب ذلك من مخاطر كثيرة.