وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، رسالة سامية بمناسبة تخليد الذكرى الـ70 لإقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية التي تلاها السيد عبد اللطيف المنوني، مستشار جلالة الملك، خلال حفل نظم اليوم الخميس بالرباط بالمناسبة، بمبادرة من وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
“الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
يخلد المجتمع الدولي في هذا الشهر، الذكرى السبعين لإقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان؛ وهو حدث شكل علامة بارزة في تاريخ البشرية.
وعلى الرغم من مضي سبعين سنة على صدور هذا الإعلان، لا تزال هذه الوثيقة، باعتبارها ميثاقاً تأسيسياً وثمرة فكر متشبع بالمثل الإنسانية، مرجعاً عالمياً ونبراساً مضيئاً تهتدي به الشعوب، في تطلعها إلى المزيد من الحرية والكرامة والتضامن، في إطار دولة الحق والقانون.
وبهذه المناسبة، يطيب لنا أن نرحب بالاحتفال المنظم تخليداً لهذه الذكرى الحافلة بالدلالات والمعاني العميقة، بمبادرة من وزارة الدولة المكلفة بحقوق الإنسان، والمجلس الوطني لحقوق الإنسان.
وهو احتفاء يأتي بعد أيام قليلة على تعييننا لرئيس جديد للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، ومندوب وزاري جديد مكلف بحقوق الإنسان، مدشنين بذلك مرحلة جديدة في مسار تجديد هاتين المؤسستين، وتكييفهما، وتعزيز مكتسباتهما، وتقوية وسائل عملهما.
وفي هذا الإطار، أدعو جميع المؤسسات والهيآت المعنية، لمواصلة الجهود من أجل القيام بدورها في الدفاع عن حقوق الإنسان في كل أبعادها، وزيادة إشعاعها، ثقافة وممارسة، وذلك في نطاق الالتزام بروح المسؤولية والمواطنة، التي تتلازم فيها ممارسة الحقوق والحريات، بأداء الواجبات.
ونهيب على وجه الخصوص، بالمندوب الوزاري، في إطار المهام الموكولة إليه، لإيلاء عناية خاصة لتعزيز الحماية في مجال حقوق الإنسان.
كما لا يفوتنا أن ننوه باللقاءات والفعاليات التي ينظمها، في مختلف ربوع المملكة، فاعلون في مجالات حقوق الإنسان، وحقوق المرأة، وحقوق الطفل، والتنمية المستدامة، احتفالا بهذه المناسبة. فكلها مبادرات تجسد بجلاء، التزامَ المغرب الراسخ بحماية حقوق الإنسان وتعزيزها.
وتكتسي هذه الذكرى السبعون أهمية خاصة، تتجلى في تزامنها مع ظرفية تواجه فيها البشرية تحديات كونية من حيث أبعادها، وغير مسبوقة من حيث حجمها. وتنضاف إلى الهوة العميقة الناجمة عن تفشي الفوارق، مختلف أشكال التمييز التي لا تزداد إلا حدةً وتفاقماً. وما فتئ صدام الجهالات يتمخض عن أشكال شتى من التعصب والتطرف، بالإضافة إلى التغيرات المناخية، وتدفقات الهجرة التي تشكل تحديات جديدة في طريق تفعيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
إن الاحتفاء بالذكرى السبعين لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يشكل، فضلا عن ذلك، فرصة للوقوف على ما أُحرِز من تقدم خلال العقد الأخير، وقياس حجم التحديات التي تعترض سبيلنا، وكذا الأشواط التي ما زالت تنتظرنا.
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
لم يقتصر التزامنا بحقوق الإنسان على المستوى الوطني على تكريسه بنص الدستور فحسب، بل جعلناه أيضاً محدداً مهماً لاختياراتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
فدستور 2011، الذي تم إعداده بطريقة تشاركية، وبمساهمة جميع الفاعلين المعنيين، يتضمن ميثاقاً حقيقيا للحريات والحقوق الأساسية، يتلاءم والمرجعيةَ الكونيةَ لحقوق الإنسان. فهو يكرس مبدأ الاستقلال التام للسلطة القضائية، ويرسي مجموعة من الهيآت التعددية والمستقلة المعنية بحماية الحقوق والحريات، والديمقراطية التشاركية، وتعزيز حقوق الإنسان، والحكامة الجيدة.
وإننا حريصون على تعزيز المغرب لهذه المكتسبات، وعلى مواصلته لمسيرته على هذا الدرب. وبهذا الخصوص، تعكف المملكة المغربية على وضع اللمسات الأخيرة على خطة عمل وطنية في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، والتي تشتمل على عدد مهم من التدابير الرامية إلى توطيد الديمقراطية وتعزيز حقوق الإنسان في جميع المجالات.
وبالموازاة مع ذلك، واصلت بلادنا تفاعلها الإيجابي والدينامي مع المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، لاسيما مع مجلس حقوق الإنسان، والمفوضية السامية لحقوق الإنسان.
وفي هذا الإطار، صدَّق المغرب على المعاهدات الدولية التسع الرئيسية المتعلقة بحقوق الإنسان. كما يقدم تقاريره بانتظام، إلى لجان الرصد المُحدثَة بموجب هذه المعاهدات، ويتفاعل بشكل دائم وبناء مع التوصيات الصادرة عنها.
وفضلا عن ذلك، زار المغربَ، خلال السنوات الأخيرة، العديدُ من المقررين التابعين للآليات والإجراءات الخاصة الأُممَية ذات الصلة بحقوق الإنسان، وأعربوا كلهم عن ارتياحهم لما تحقق في بلادنا في هذا المجال.
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
لقد انخرط المغرب مع دول أخرى أعضاء في الأمم المتحدة، في إعداد الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية واعتماده.
ويواصل المجتمع المدني المغربي من جهته، تطوير قدراته وتنويع نسيجه، في سعي يومي إلى الإسهام في حماية الحقوق وتعزيز روح المواطنة.
ولا يسعنا إلا أن نحيي دوره في هذا المجال. وما مشاركته الفاعلة في المؤسسات الدستورية للحكامة الجيدة، وفي مجالس الديمقراطية التشاركية التي أرستها الدولة والجماعات الترابية، إلا ضمانةٌ لترسيخ ثقافة الحوار، وقيمةٌ مضافة في هذا الشأن.
ففي مدة تقارب ثلاثة عقود، اكتسبت المؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان زخماً متنامياً عزز من مكانتها ودورها، سواء على المستوى الوطني، أو داخل منظومة الأمم المتحدة.
كما أصبح لبلدان الجنوب حضور ما فتئ يتقوى في المشهد الدولي لحقوق الإنسان، في وقت صار فيه المجتمع المدني شريكاً أساسياً للدول، يغني بمقترحاته وتوصياته عمليات إعداد السياسات الوطنية، والتوجهات الدولية في مجال حقوق الإنسان.
ومنذ إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، لم تتوقف مسيرة تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان، من خلال اعتماد صكوك ومواثيق في غاية الدقة والتركيز، وذلك بالرغم مما يعترض هذه المسيرة من صعوبات في غالب الأحيان.
ومع ذلك، فإن هذا المنحى الإيجابي يصطدم في العديد من مناطق العالم بالنزاعات المدمرة، والتيارات المتطرفة العنيفة، والنزوع إلى الانغلاق، ورفض الآخر، والتعصب.
وفي الآن ذاته، تبرز تحديات جديدة يتعين التصدي لها بالتدابير الملائمة. وفي اعتقادنا، فإن أول ما ينبغي اعتماده من خطوات في هذا الاتجاه هو تفعيل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، ومحاربة كل أشكال الميز، لاسيما منها الميز الذي يستهدف النساء، وتمكين الشباب وإدماجهم، وحماية حقوق الفئات الهشة، وفي مقدمتها الأطفال والأشخاص ذوو الإعاقة، دون إغفال العمل على تقليص الفوارق الاجتماعية والتفاوتات المجالية.
ويجب أن تستند التدابير المتخذة لمواجهة هذه التحديات إلى مرجعيات واضحة، نابعة من القيم الأساسية المضمنة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
ويعد الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة والنظامية، مثالا حياً في هذا المجال. فهو، وإن كان وثيقة غير ملزمة تم إقرارها في مراكش في العاشر من دجنبر الجاري، إلا أنه يضع احترام الحقوق الأساسية لجميع المهاجرين وصونَها وتفعيلَها، في صميم المفهوم الجديد لحكامة الهجرة.
وبما أن هذا الاتفاق يستند إلى القانون الدولي لحقوق الإنسان، فإنه يكرس الطابع الكوني لحقوق الإنسان وعدم قابليتها للتجزئة. فهو ينطلق من اقتناع مؤداه أن لا هجرة آمنة ومنظمة ونظامية إلا في ظل الاحترام التام لحقوق المهاجرين، أيًّا كان وضعهم في إطار الهجرة.
أصحاب المعالي والسعادة،
حضرات السيدات والسادة،
وضعت المملكة المغربية المكون الإنساني في صلب السياسة التي تنتهجها في مجال الهجرة، وذلك من منطلق حرصها الشديد على القضاء على كل أشكال الميز تجاه المهاجرين. فقد أرست بلادنا سياسة للهجرة تتميز بتوجهها الإنساني والمتوازن والتضامني، الهادف إلى ضمان حياة كريمة للمهاجرين، وتيسير سبل اندماجهم في المجتمع المغربي على نحو مستدام. وسنواصل العمل دونما كلل، من أجل النهوض بثقافة حقوق الإنسان، وإحقاق كافة الحقوق، والالتزام الصارم بالواجبات والمسؤوليات تجاه الغير والمجتمع والأمة.
لذا، فإننا نؤكد مجدداً تشبث المملكة المغربية بالنهج متعدد الأطراف، القائم على تضامن الشعوب، والسعي إلى السلم والسلام، والطابع الكوني للحقوق.
لقد ظلت العدالة الاجتماعية والمجالية وما تزال، من المبادئ التي تحكم توجهاتنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية. إذ ينبغي أن تساهم كافة السياسات العمومية اليوم في إحقاقها، لتضع بذلك اللبنة الأولى لمجتمعات متضامنة ومنسجمة، يتمتع فيها كل فرد بالحق في الأمن والحرية والكرامة والمساواة.
وإننا لنؤمن إيماناً راسخاً، في هذا الإطار، بمزايا الجمع الذكي والمتبصر، بين الالتزام بالمكون الكوني، ومراعاة متطلبات التنوع. فالكونية، كما سبق لنا أن أكدنا في مناسبة سابقة، “يجب أن تشكل في جوهرها، نتاجاً لدينامية انخراط تدريجي، عبر مراحل، تصل بها إلى درجة من التملك الفردي والجماعي، تجد فيه التقاليد الوطنية والثقافية مكانها الطبيعي، حول قاعدة قيم غير قابلة للتقييد، دون تعارض أو تناقض معها. ومن هنا، فإن الكونية تكتسب مشروعية أكبر، حينما تمثل التنوع الإنساني وتحميه، وعندما تتبناها كل شعوب وثقافات العالم، وتساهم في صنعها وبلورتها.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته”.