محمد الهيني
نشرت وكالة الأنباء الإسبانية EFE قصاصة تتضمن “تسريبات جديدة صادرة عن منظمة العفو الدولية (أمنستي) في قضية “مزاعم الاختراق المعلوماتي للهاتف الخلوي للصحفي المبتدئ عمر الراضي”.
ويعتبر هذا “التسريب الجديد” الصادر عن منظمة (أمنستي أنترناشيونال) أسلوبا متفردا وغير مسبوق في عمل المنظمات الحقوقية الدولية، التي ألفها الجميع وهي تعبر عن مواقفها وقراراتها من خلال بيانات منشورة في مواقعها الرسمية على شبكات التواصل الاجتماعي، أو عبر تصريحات لمسؤولين معتمدين فيها، يكونون إما مكلفين بالتواصل أو مشرفين على نطاقات جغرافية محددة ضمن الولاية الدولية لهذه المنظمات، كمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط أو دول جنوب شرق آسيان وغيرها.
ولعلّ ما يثير الارتياب والشك حول “مصدر أمنستي” الذي أفشى التسريبات الجديدة لوكالة الأنباء الإسبانية، والتي زعم فيها بأن هذه المنظمة ردّت كتابة على السلطات المغربية بخصوص قضية عمر الراضي، هو أن هذا المصدر المذكور لم يُدلِ بتلك التصريحات بهويته المعلومة ولا بصفته الرسمية داخل منظمة العفو الدولية، حسب ما هو ثابت مبدئيا من محتوى القصاصة! وهذا الذود بالمجهول، والتخفي وراء المصدر غير المعلوم، يطرح أكثر من علامة استفهام حول خلفيات وأسباب هذا الأسلوب الجديد في التواصل الذي اعتمدته منظمة العفو الدولية، ويحمل على الاعتقاد “وكأننا أمام عميل استخباراتي حريص على إخفاء هويته في حرب جاسوسية معلنة، وليس أمام فاعل حقوقي دولي”.
إن اختباء منظمة العفو الدولية وراء “مصدر غير معلوم” يُفقد تصريحاتها قيمتها الإثباتية، حتى وإن كانت الدعامة الناشرة للخبر هي وكالة الأنباء الإسبانية، لأن العبرة هنا ليس بالخبر المسرب وإنما هي بمن صدرت عنه هذه التصريحات داخل منظمة العفو الدولية. كما أن اعتماد تقنية “التسريبات” لا تليق بمنظمات حقوقية وبجمعيات غير حكومية دولية، لأنه يفترض فيها أنها تشتغل في الضوء ولا مساحات رمادية في نطاق عملها.
أكثر من ذلك، فأسلوب التواصل ب”الإحالة على مصدر مجهول” أو “بالوكالة” الذي اعتمدته منظمة العفو الدولية في تسريب خبر الرد على السلطات المغربية، يحيلنا بالضرورة إلى تصديق والاقتناع بالتقارير الإعلامية المغربية التي اتهمت أمنستي ب”التواطؤ” وتسريب تقريرها السابق الصادر في 22 يونيو المنصرم لأكثر من 17 جريدة ومنبر إعلامي دولي.
وما يزيد من حدة الارتياب، ويرفع منسوب الشك في التصريحات الأخيرة التي سرّبتها منظمة أمنستي عبر وكالة الأنباء الإسبانية، هو “ادعائها التواصل مع السلطات المغربية في شخص خمسة موظفين من وزارة حقوق الإنسان، لكن بدون جدوى بسبب تعذر مخاطبتهم، وذلك قبل نشر التقرير المؤرخ في 22 يونيو 2020”.
فهذا الادعاء يسيء لمنظمة العفو الدولية أكثر ما يخدم موقفها كمنظمة حقوقية مفروض فيها الدقة. فقد كان حريا بأمنستي أنترناشيونال أن تحدد لنا صفات أو هويات هؤلاء الموظفين العموميين الذين حاولت الاتصال بهم، وما هي صلاحياتهم التقريرية داخل وزارة حقوق الإنسان؟ وكيف جرت محاولات الاتصال؟ هل بالهاتف أم بالمراسلة أم عبر الاتصال الشخصي المباشر؟ فالتذرع والاختباء وراء محاولة الاتصال بخمسة موظفين هو عذر أقبح من الزلة كما يقول المثل العربي الفصيح.
وإذا كان ظاهر تصريحات (مصدر أمنستي غير المعلوم) يوحي بأن هذا الاتصال كان هاتفيا، وإن حاولت استدراك ذلك في بيان لاحق تحدث عن مراسلة إلكترونية مزعومة، فإننا نجد أنفسنا أمام منظمة فاقدة لآليات التواصل الرسمي، ومرتجلة في مخاطبة المؤسسات الرسمية للدول. فالمفروض أن تحصيل تعقيب رسمي حول تقرير حقوقي يكون بالمراسلات الرسمية الموجهة لوزارة الشؤون الخارجية والتعاون أو للناطق الرسمي باسم الحكومة، وليس عبر مكالمات هاتفية على أرقام شخصية لموظفين، قد يكونون في مستوى عال من المسؤولية أو قد يكونوا مجرد موظفين يأتمرون بأوامر رؤسائهم الإداريين، ولا يملكون سلطة القرار.
لكن “ورقة التوت” سوف تتداعى بشكل كامل وتسقط عن منظمة العفو الدولية عندما نراجع تقريرها الأصلي المؤرخ في 22 يونيو المنصرم. فماذا قالت أمنستي في هذا التقرير بشكل يكشف كذبها؟ لقد قالت بالحرف ” كما كتبنا إلى الحكومة المغربية إلا أننا لم نتلق ردا”!! ولفظة “الكتابة” هنا لا تحتمل سوى شيئا واحدا هو “مراسلة الحكومة المغربية كتابة وبشكل يترك آثرا ماديا على الكتابة”. فلماذا إذن لم تنشر منظمة العفو الدولية مراسلتها المكتوبة الموجهة للسلطات المغربية ما دام أنها تزعم أنها راسلت بالفعل هذه السلطات؟ ولماذا فضّل مصدر أمنستي المجهول الحديث عن الاتصالات بخمسة موظفين بدون جدوى، ولم يتحدث نهائيا عن المراسلة المكتوبة المزعومة؟
إن التناقض الصارخ بين تقرير أمنستي المكتوب وتسريبات مصدرها المجهول لوكالة الأنباء الإسبانية، يجعلنا أمام “تخبط كبير في مواقف منظمة العفو الدولية”. وهو التخبط الذي اتخذ تارة طابع “التسريب” الذي لا يجد مكانه نهائيا في عمل المنظمات الحقوقية، التي من المفروض أنها ليست وكالة استخباراتية ولا شبكة إعلامية تحرص على سرية مصادرها، وإنما هي منظمات حقوقية تدافع عن العلانية في كل شيء. كما أن هذا التخبط تجسّم مرة أخرى في صورة “عدم الدقة” حتى لا نقول “تحريف الحقائق”. إذ لا يمكن الخلط بين المراسلة المكتوبة والاتصال بدون جدوى، اللهم إلا إذا كانت منظمة العفو الدولية تحاول إخفاء “عدم حياديتها في هذا الملف” عبر الركون لأساليب جاسوسية مثل التخفي والتسريب.
محمد الهيني: محام بهيئة تطوان