حين قبلت جبين جثمان الفنان الجزائري الراحل رشيد طه، و قرأت الفاتحة على روحه الطاهرة و هو مسجى في باريس أمام أصدقائه و معارفه و زملائه من الموسقييين و الفنانين و الإعلاميين الفرنسيين قبل نقله إلى الجزائر ليوارى الثرى،لفت انتباهي تكون بقعتين من الدم الداكن أسفل عينيه و هو أمر غير عادي رغم معرفتي المسبقة بآثار توقف دوران الدم على جسد الإنسان بعد موته.
و حينما أسلم رشيد طه الروح إلى باريها،إثر إصابته بنوبة قلبية مفاجئة أثناء النوم دون أن يجد من يسعفه،و انتشر خبر رحيله إلى دار البقاء عن عمر ناهز ال59 عاما،تدافع بعض هواة الأحكام المسبقة و النظرات الثاقبة و قراء ما تغمره النفوس،منجمي العقول و النوايا للإقرار بأن رشيد طه مدمن على تعاطي المخدرات و شرب الخمر،و أن هذا هو سبب توقف قلبه و رحيله مبكرا عن هذا العالم.
و دفاعا عن الرجل الذي أصبح الآن بين يدي خالقه،ارتأيت كتابة هذه الأسطر لمعرفتي الجيدة بحالته الصحية التي تدهورت و ساءت خلال الأيام الأخيرة،لدرجة أنه كان بصدد ترتيب ظهور له على برنامج تلفزيوني يهتم بالصحة في قناة تلفزيونية فرنسية بمناسبة عيد ميلاده الستين يوم 18 سبتمبر 2018،أي قبل أسبوع واحد من موعد وفاته، ليخبر جمهوره و معجبيه بمرضه للمرة الأولى، و هو الذي تكثم عنه لسنوات طويلة،و لم يخبر به أحدا سوى دائرة ضيقة جدا من مقربيه، أولهم ابنه و ثلاثة من أصدقائه الفرنسيين.
عشية وفاته عاد رشيد من سفره إلى سلطنة عمان التي أحيا فيها آخر حفل فني له،وصل مساءا إلى بيته الباريسي في فرنسا و كان تعبا و مرهقا،فأصر على أن لا يتناول عشاءه تلك الليلة إلا مع ابنه الوحيد، دون أن يشاركهما أحد الوجبة الأخيرة و كأنه رحمه الله كان يستشعر اقتراب موعد الرحيل.
على طاولة العشاء الاخير،كان المٌوت جالساً هنّاك أيضا،شعر رشيد بتعب شديد و ببعض الألم،تناول بعض المهدئات و توجه إلى سريره و استسلم للنوم لعله ينسيه آهات الألم دون أن يدري رحمه اله أنها نومته الأخيرة.
منذ ثلاثين عاما،أي في العام 1987، اكتشف فنان الروك الوحيد الذي أنجبته المنطقة العربية رشيد طه إصابته بـمرض وراثي نادر اسمه “متلازمة أرنولد كياري » من النوع الأول،بعد ما فقد الإحساس تماما بيده اليمنى أثناء تأدية أغنية « فرنسا الهادئة » الشهيرة للتلفزيون الفرنسي، و ظهرت يده في مناسبات عديدة متوارية تحت معطفه لا تتحرك و كأنه مصاب بكسر فيها.
مرض « متلازمة أرنولد كياري » هو عبارة عن عيوب هيكلية تحدث في المخيخ والحبل الشوكي، العضوان المسؤولان في جسم الإنسان عن تأمين توازن الحركة من وقوف و مشي و جلوس و تمدد.
أزمة أرنولد- كياري أو كياري مرض من ثلاثة أنواع اكتشفته البشرية قبل 100 عام تقريبا، و يعني فتق أو إنفتاق الجزء السفلي من الدماغ،أي اللوزتين المخيخيتين و الجزء السفلي من المخيخ، و ذلك عبر الثقبة العظمى إلى قناة العمود الفقري،من مضاعفاته أنه يتسبب في عملية الجر الى الأسفل الذي يعاني منه الحبل الشوكي لكونها محددة بتشوهات أخرى للعمود الفقري كعاهة القيلة النخاعية السحائية أو عاهات أخرى.
رغم خضوعه لعمليتين جراحيتين في ذراعه اليمنى،أكثر جزء في جسده تأثر بمضاعفات المرض في العامين 1989 و 1999 ، إلا أن رشيد كان يستشيط غضبا حين ينعته بعض الناس على مواقع التواصل الإجتماعي بالمخمور و مدمن المخدرات،خلال تفسيرهم تمايله فوق منصات الغناء في حفلاته الفنية،دون أن يعلموا أن هذا التمايل و فقدان القدرة على الوقوف لمدة تابثة و طويلة و التحرك المستمر في كل الاتجاهات، ليسوا سوى أعراض المرض النادر.
ومع الإجهاد و التعب و التذخين و السفر الدائم و كثافة حفلاته الفنية و السهر في إنتاج ألبومات جديدة و هو المعروف بغزارة إنتاجه و اجتهاده، تطورت الحالة إلى إصابة من النوع الثاني،فكان من نتائجها أن أصيب الرجل بضعف اليدين والأطراف و فقدان انتظام التنفس و ضغط قاع العين، إلى أن ساء حاله أكثر بانتقال الإصابة إلى النوع الثالث،و التي من أشد و أخطر أعراضه حدوث أزمة قلبية حادة بشكل مفاجئ، و كانت المرة الأولى و الأخيرة التي يصاب بها،حيث أنه في جميع مراحل تلقيه العلاج لم يبسق أن تعرض أبدا لنوبة قلبية.
كان رحمه الله يعتقد و يجزم أن المرض الذي ابتلاه الله به،سببه وجود حالات عديدة لزواج الأقارب في عائلته،بعد أن أخبره أطباء أن هذا عامل رئيسي و أساسي في الإصابة بالمرض الوراثي و جل أمراض الجهاز العصبي.
هذا باختصار السبب الحقيقي خلف ظهور الرجل المتكرر و هو يتمايل في حفلاته الفنية،و لم يكن أبدا يتعاطى المخدرات أو يدمن الكحول كما روج البعض عنه حيا و ميتا،فالمرض كان المسؤول الأول و الأخير عن خلل التوازن و فرط الحركة اللذان كانا يتميز بهما فوق المنصة.
رحمه الله و غفر له و شافى مطلقي الأحكام السلبية المسبقة
*
إعلامي و صحافي مغربي مقيم في باريس