بدايات مسلسل الاقتراضات المغربية
يعد قرض 1904 ثاني قرض في تاريخ المغرب، وفي عهد المولى عبد العزيز استغله بنك “بّاريبا” أيما استغلال لبسط هيمنته على الحياة الاقتصادية والمالية والسياسية في المغرب وجعله أكثر قابلية للاستعمار. وقد امتدت هذه السيطرة منذ هذه السنة لتشمل سنوات الحماية الفرنسية وما بعدها..
بنك “بّاريبا” والتطلعات الإمبريالية تجاه المغرب
تأسس بنك باريس والبلدان المنخفضة (Banque de Paris et des Pays-Bas) أو كما يعرف بصيغة الاختصار بنك “بّاريبا” (Paribas) سنة 1872 في العاصمة الفرنسية باندماج بنك باريس، المؤسس سنة 1865، وبنك البلدان المنخفضة للقرض والإيداع، المؤسس سنة 1863. ومع نهاية القرن التاسع عشر، سيطر هذا البنك على المعاملات المالية والقروض داخل باريس، إذ أخضعها لمراقبته، من خلال اتحاد الأبناك الفرنسية “Consortium” الذي أنشأه، قبل أن يُحكم قبضته على القطاع الاقتصادي في فرنسا، بعد تأسيس الشركة العامة للكهرباء وشركة الأسلاك التليفونية.
ونتيجة لما عرف بـ”أزمة فائض الإنتاج”، التي عرفها الاقتصاد الأوربي ما بين سنتي 1880 و1895، وانكماش فرص الاستثمار داخل القارة العجوز، عملت المؤسسات البنكية، وعلى رأسها بنك “بّاريبا”، على دفع حكوماتها إلى إيجاد أسواق جديدة، بنهج سياسة استعمارية، ضامنها الاستفادة من التجارب الإمبريالية الأولى. وبما أن المغرب لم يكن بعدُ مستعمرا، فقد أسالت ثرواته وما قد يمثله من مجال حيوي للاستثمار لعاب رجال الاعمال الأوربيين، خاصة منهم الفرنسيين.
أبدى بنك “بّاريبا” اهتمامه بالمغرب بادئ الأمر سنة 1886، حينما شارك في تأسيس “لجنة المغرب” (Comité du Maroc) برئاسة أوجين إتيان (Eugène Etienne) الذي كان يشغل وقتها منصبي نائب وهران وخليفة مجلس النواب الفرنسي، بالإضافة إلى عدد من رجال الأعمال الفرنسيين ومديري شركات الملاحة وممثلي المعمرين الفرنسيين في منطقة وهران الجزائرية. وفي 1901 سعى البنك المذكور إلى تأسيس بنك تابع له في المغرب، لكنه فشل أمام معارضة وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، ديلكاسي (Delcassé) الذي كان يفضّل التغلغل “السلمي” باعتماد الدبلوماسية وعدم جذب الانتباه، من خلال السيطرة على سجالات وصرعات رجال الأعمال، التي من شأنها أن تفضح نواياهم الاستعمارية.
المخزن العزيزي وبنك “باريبا” والآخرون..
في 1902، اشتدت الأزمة المالية والاقتصادية في المغرب، حينما غذت الخزينة المخزنية خاوية على عروشها، نتيجة لارتفاع المصاريف في عهد المولى عبد العزيز (مصاريف الجيش، التعويضات المالية للأجانب، مصاريف القصر)… مقابل تراجع المداخيل، بسبب إلغاء الضرائب التقليدية، كالزكاة والأعشار والنايبة، وتعويضها بالضريبة الحديثة المعروفة باسم “ضريبة الترتيب”، والتي سعت الدول الأوربية إلى فرضها على المغرب منذ 1901، ولم يصادق عليها إلا سنة 1903. ونتيجةً لهذه الأسباب الظاهرة وغيرها مما خفي، أُجبر المولى عبد العزيز على تدشين مسلسل الديون المغربية، حينما أضحت مكانة المؤسسات البنكية في عهده أرفع مقاما وأكثر أهمية من الديبلوماسية والمؤسسات الصناعية.
استغل بنك “باريبا” هذا الظرف الاقتصادي الحرج لإقحام أنفه في الشأن المالي المغربي، مدعوما بمساندة وزير المالية الفرنسي وقتئذ، موريس روفيي (Maurice Rouvier) للاستفادة من “قرض 1903″، ليجد نفسه في مواجهة الإخوة جوزيف أوجين من جهة، وأدولف شنيدر، سيد الصلب وصناعة الأسلحة في “Le Creusot”، من جهة أخرى، والذي كان يتمتع بحظوة لدى القصر ويحتكر القطاع الاقتصادي الحديث في المغرب، خاصة بعد تأسيسه شركة “مؤسسات كوتش” (Gautsch) في 12 أبريل 1902، والتي حوّلها في 30 مايو من السنة نفسها إلى “الكُبانية المغربية” (La Compagnie Marocaine) وفتح فرعين لها في مدينتي طنجة وفاس.لكن الحكومة الفرنسية جعلته يتنازل لصالح بنك “بّاريبا” وأرغمته على قبول اتفاق يحد نشاط “الكبّانية المغربية” في المجالين التجاري والاقتصادي، مفسحا المجال أمام بنك “باّريبا” لاحتكار كل المعاملات المالية الجارية داخل المغرب. كما أن “الاتفاق الودي” المبرم بين إنجلترا وفرنسا في 8 أبريل 1904 (بمقتضاه انسحب الإنجليز من لعبة التكالب الإمبريالي على المغرب) سمح باطمئنان الرأسمال الفرنسي إلى الاستثمار في المغرب، بعدما اتفقت مصالحه مع تطلعات الاستعماريين وتداخلت “مصالح الأبناك بمصالح السياسة”.
قرض 1904.. بداية التكبيل الاستعماري
بتاريخ 29 يناير 1904، تقدمت الحكومة المغربية بطلب قرض من الحكومة الفرنسية، تسلمه النائب الفرنسي في طنجة من خليفة النائب السلطاني في المدينة ذاتها، الحاج عبد الرحمن بنيس، وهو عبارة عن رسالة شخصية من المولى عبد العزيز يطلب فيها قرضا جديدا. وقد ترأست “بّاريبا” المفاوضات، التي كُلف بها اتحاد الأبناك الفرنسية (Consortium) لمحاورة الحكومة المغربية بخصوص طلب القرض، إذ طالت مجريات هذه المفاوضات، وعمدت خلالها “بّاريبا” إلى نهج شتى أساليب الضغط والمراوغة، بالإضافة إلى رشوة البعض من أعضاء المخزن المغربي، لتسفر عن إبرام اتفاق في فاس بتاريخ 12 يونيو 1904. وقد وقع من الجانب المغربي وزير الخارجية، عبد الكريم بن سليمان، ووزير المالية، محمد بن عبد الكريم التازي، ومن الجانب الفرنسي ممثل بنك بّاريبا (Georges Langaussiano) نيابة عن اتحاد الأبناك الفرنسية. وقد اعتبرت الباحثة في تاريخ المغرب ثريا برادة هذا الاتفاق بمثابة “أول لبنة فعلية للاستعمار الفرنسي في المغرب”.
كان مفاد الاتفاق أن يُمنح للمخزن العزيزي قرضٌ قدْره ستون مليونا وخمسمائة فرنك، لم يتسلم منه فعليا إلا عشرين مليونا وخمسمائة ألف فرنك، إلى جانب شروط مجحفة لم تخدم في مضمونها سوى مصالح بنك “بّاريبا”، وجعلت المغرب أكثر قابلية للاستعمار الفرنسي..
(يتبع)