صلاح الوديع
رحل المايسترو. كان لاعبا مقتدرا فنانا. كان مخلصا لفنه أولا، وكل حياته تمت حياكتها حول هدف، حول مشروعٍ تحوَّل مع الزمن إلى معنى للحياة.
كان نجم زمانه. ليس مثل النجوم التي تأفل حين تغيب.
ظل حاضرا حتى في غيابه. لماذا كان ذلك ولا يزال؟ وهو لم يجبرنا – بأي شكل – على أن يبقى بيننا حاضرا على الدوام؟ لماذا هذا الاستثناءُ – إلى جانب آخرين إلى جانبه، حتى لا نكون مجحفين؟
لأن ممارسة الضلمي للكرة كان فرعاً من كيان. كان اختيارَ وجدان…
كان التفنن في لعب كرة القدم هو الشكل الأسمى والأمثل لترجمة روح الضلمي وأخلاقه: الأداء الأمثل والإنجاز الأنجع وروح التنافس الشريف والأخوّة لا العداوة، والعطاء قبل الأخذ والتطوع قبل الآخرين والكرم في توزيع الكرة والكفاحية عند هجوم الخصم والمبادرة عند تعثر المهاجمين من أصدقائه. والصمت. الصمت المدوّي. الصمت كشكل للفصاحة. الصمت العابر للقلوب…
شحُُّ الكلام وكرم العطاء وألمعية الإنجاز مع التخفي عن الأضواء. لم يُسمعْ له صوتٌ. لكنه كان لا يتوقف عن الكلام. كان يتكلم بحركاته. بسكناته. بوقفته. بانطلاقاته. بتموقعه في الميدان، ذكيا بهيًّا منتجا. بعودته السريعة إلى حيث الخطر على مرماه. بسلاسة تكسير هجوم الفريق الخصم دون إلحاق الأذى بلاعبيه. وبإعادة الوهج في الدقيقة التي تلي، لهجوم “الخضراء” التي كرس حياته لها حتى النزع الأخير، ولم يقل في مُسيريها كلمة سوء رغم أنها سهت عن تكريمه مرارا وتكرارا… كان لوقفته وسط الميدانِ هيبةٌ. بإشاراته وتلميحاته وإيماءاته الخفية، الصانعةِ للأمجاد.
كان شيئا من روحنا، شيئا من مغربيتنا. شيئا جميلا من كياننا. كنا نحس بمغربيتنا تتوهج حين يرافع عنها الضلمي في ميادين كرة القدم الدولية والقارية. وكنا نحس بأن هذه الأرض، أرضنا، ليست عاقرا ولا محتبسة الإبداع، وأن الخير فينا، يكفي أن نحسن تدبيره وإبرازه والاعتراف لأصحاب فضله…
لا يحتاج المغاربة إلى معاجم للتعبير حين يتعلق الأمر بالحب الصادق لمثل هؤلاء من أبنائه. ولكونهم غير ناكرين للجميل، فقد أطلقوا على الضلمي أجمل الألقاب: المايسترو، المعلْم، الأستاذ…
وأنا أستعيد شذرات من حياة هذا العبقري الراحل، ذكرتني أخلاقه بشخص آخر في تاريخنا، من لحمنا ودمنا ونسيج أحلامنا. هو الراحل إدريس بنزكري.
لا أقول ذلك لأنني رجاوي منذ نعومة أظافري، أقوله كما قد يقوله أي مغربي في أي درب وحارة انطلاقا من الأزقة الشعبية التي تصب في شارع الفداء بالبيضاء وتغذي ملاعبه المغبرة بعباقرة “المستديرة”.
ما أحوجنا اليوم إلى استحضار أخلاق الضلمي وأخلاق أمثاله، في لحظة الوداع هاته…