عبد الشافي خالد*
تعيش الصحراء المغربية هذه الأيام توترا هو الأكبر من نوعه في المنطقة منذ حوالي ثلاثة عقود ،وذلك بعد إعلان جبهة البوليزاريو الانفصالية الحرب على المغرب،والتي تنازع المغرب في حق السيادة على أقاليمه الجنوبية بدعم معلن من الجزائر وبعض الدول التي كانت ضمن المعسكر الشرقي خلال الحرب الباردة ،وبالتالي تملصها من الامتثال لبنود اتفاق وقف اطلاق النار الذي وقعته برعاية الأمم المتحدة سنة 1991.ولفهم هذا التطور الخطير الذي قد يؤدي لتفجير الأوضاع في المنطقة لابد من العودة لسياقه وحيثياته باختصار شديد .
تأتي هذه الخطوة “الانتحارية ” من طرف الجبهة الانفصالية بعد تدخل الجيش المغربي يوم 13 نونبر الجاري لوضع حد لإغلاقها لمعبر الكركرات الحدودي الذي يقع على الأراضي المغربية ،والذي يعتبر المعبر الحدودي البري الوحيد الذي يربط المملكة المغربية بدولة موريطانيا وبالتالي دول افريقيا الغربية ،مما يعني بأنه طريق تجاري دولي يربط أوربا بإفريقيا عبر المغرب .وذلك بعدما كانت الجبهة قد حشدت مواطنين مدنيين تحت حماية عسكرية من مقاتليها أمامه وقطعت الطريق المذكور منذ 21 أكتوبر الماضي وتخريبه للضغط على مجلس الأمن الذي كان بصدد إصدار تقريره السنوي المعتاد بشأن التمديد لبعثة المينورسو في المنطقة العازلة ،والتي أناطت بها الأمم المتحدة مهمة مراقبة وقف إطلاق النار منذ 1991 ،والتي تنتشر بناء على ذلك في منطقة عازلة منزوعة السلاح تخلى عنها المغرب طواعية لفائدتها بموجب الاتفاق المذكور.
لقد أثار إقدام الجبهة على تلك الخطوة غبر المحسوبة العواقب ردود فعل دولية منددة وطالب مجلس الأمن في آخر قرار له تحت رقم 1284 في 30/10/2020 الجبهة صراحة ” بوقف انتهاكات الاتفاقات القائمة “، كما أكد المجس في القرار المذكور في نقطته السادسة على ” ضرورة الاحترام التام للاتفاقات العسكرية التي جرى التوصل إليها مع البعثة بشأن وقف إطلاق النار ” و ” الامتناع عن أي أعمال من شأنها أن تقوّض المفاوضات التي تسيّرها الأمم المتحدة أو أن تؤدي إلى زيادة زعزعة استقرار الحالة في الصحراء الغربية “.وهذا كاف لإثبات أن الجبهة قد أصبحت خارج الشرعية الدولية بتهورها ودوسها على الاتفاقات الموقعة…
ولفهم خلفيات هذه الخطوة الاستفزازية الجديدة من طرف مرتزقة البوليزاريو المدفوعين من طرف جنرالات قصر المرادية المحتضن والداعم للجبهة الانفصالية والمتحكم الفعلي في كل قراراتها الصغيرة والكبيرة يجب استحضار عدة متغيرات عرفتها القضية خلال السنتين الأخيرتين.
لقد استقال المبعوث الشخصي للأمين العام إلى الصحراء الألماني هورست كوهلر منذ ماي 2019 ” لدواع صحية “كما قيل ولم يتم تعويضه لحد الآن ،مما أعاد الجمود للملف بعد توفق المشاورات. كما وصل لقيادة الجيش الجزائري الحاكم الأوحد والفعلي للبلاد الجنرال العجوز السعيد شنقريحة (75 سنة) أكثر القادة العسكريين عداء للمغرب ومناصرة للبوليزاريو ، والذي يعتبر تواجده في الصحراء ” احتلالا ” ضد على الأمم المتحدة ومجلس الأمن الذي لم يسبق أن قال بذلك ، حيث خلف الجنرال القايد صالح بعد وفاته سنة 2019 بعدما كان قائدا للمنطقة العسكرية الثالثة التي تضم الحدود مع المغرب منذ 2004.وهكذا ثبّته الرئيس الجديد الذي لا يقل عداوة للمغرب عبد المجيد تبون في يوليوز الماضي كرئيس لأركان الجيش الوطني الشعبي الجزائري،ولا غرابة أن تحتفل الجبهة الانفصالية بتعيينه في هذا المنصب،وهو التعيين الذي حمل رسالة واضحة للمغرب من طرف الواجهة السياسية الجديدة للجيش في قصر المرادية الرئيس تبون، الذي أعلنت بالمناسبة إصابته بكورونا واختفائه منذ اندلاع مشكلة المعبر في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر الماضي إلى الآن ،إلى حد رفع الجزائريين لمطلب ” معرفة أين الرئيس ” كما كان عليه الأمر خلال أواخر عهد سلفه عبد العزيز بوتفليقة علما أنه يحتكر السلطة التنفيذية نظريا…
لقد أجلت الجبهة الانفصالية مؤتمرها 15 إلى حين تعيين شنقريحة مباشرة ،والذي صرح البيان الصادر عنه بنيتها التحرك لوضع حد للجمود الذي تشعر معه بأنها تخسر نقطا لصالح المغرب الذي يعمل الزمن والأمر الواقع لصالحه ولصالح أطروحته ،ويكفي أن نلاحظ عدد مرات تنصيص قرار مجلس الأمن الأخير على وصف ” الواقعية ” لأي حل مرتقب لفهم ما نقصده…
لقد دفعت الجبهة الانفصالية بقطاع الطرق لغلق المعبر في نفس اليوم تقريبا لإعلان دخول تبون في الحجر الصحي نتيجة لإصابته بكورونا كما قيل ، وذلك قبل أسبوع من إجراء استفتاء شعبي على تعديل الدستور الجزائري للسماح للجيش بالتحرك خارج حدود بلاده في فاتح نونبر الجاري لم تتعدى نسبة من شارك في التصويت عليه حتى 24 في المئة كما أعلن رسميا.
إضافة لذلك ليست المرة الأولى التي تثار فيها مشكلة معبر الكركرات ، فقد سبق وأن نددت الجبهة سنة 2016 بتدخل الدرك الملكي المغربي لمطاردة المهربين وتجار المخدرات في المنطقة العازلة خلف الجدار العازل، وهي المنطقة التي تسميها الجبهة ” منطقة محررة ” ! علما بأن الجميع يعلم بأنها منطقة تخلت عنها المملكة المغربية طواعية لفائدة الأمم المتحدة لمراقبة وقف اطلاق النار، لكن التدخل المغربي العسكري الصارم والحازم يوم 13 نونبر الحالي الذي طرد هؤلاء المرتزقة وعصابات قطاع الطرق فاجأ الجبهة وحكام قصر المرادية الذين كانوا يتوهمون بأن استغلال الظرفية الدولية والإقليمية ومخلفات الأزمة الاقتصادية الناتجة عن وباء كورونا قد يسمح لهم بفرض أمر واقع مقتضاه إغلاق أهم شريان اقتصادي يربط المملكة بعمقها الإفريقي في إفريقيا جنوب الصحراء عبر موريتانيا ،وربما كانت نيتهم ترحيل اللاجئين الصحراويين من تندوف لتلك المنطقة و إعمارها ،وبالتالي تخلص الجزائر من مشكلة خلقتها و أصبحت تشكل لها مآزقا مع اندلاع الحراك الشعبي المطالب بإسقاط النظام وإنهاء حكم العسكر للبلاد من جهة ،ومن جهة ثانية تحقيق حلم قديم بامتلاك منفذ للمحيط الأطلسي كون المعبر لا يبتعد عنه إلا ب 5 كلم ، وأساسا محاصرة المملكة المغربية وعزلها بهدف إضعافها وتوقيف تمددها جنوبا اقتصاديا وجيواستراتيجيا في إطار الصراع على النفوذ في شمال إفريقيا وفي إفريقيا جنوب الصحراء بينهما.
ان متابعة مقتضبة للإعلام الجزائري الخاص منه والرسمي هذه الأيام ،والاستماع لمداخلات شخصيات رسمية جزائرية تبين بوضوح ما كانت الجزائر تحاول إخفائه بزعمها الحياد في الملف ،أما الحقيقة فهي أن قضية الصحراء ما هي إلا واجهة لصراع قديم بينها وبين المغرب يعود على الأقل إلى حرب 1963 ، حيث وصل الأمر بالأمين العام للحزب الحاكم إلى إعلان التعبئة لحشد ألاف الشباب الجزائريين لمقاتلة المغرب إلى جانب البوليزاريو ، بل اعتبرت دوائر رسمية جزائرية أن قضية الصحراء تمثل قضية “سيادة ” و ” أمن قومي جزائري ” ، وكأن المغرب يهدد فعلا هذا الأمن القومي للجارة الشرقية…
ولعل بعض من أسباب هذا التوتر والانفعال الذي عم الدوائر الرسمية في الجارة الشرقية للمغرب تكمن في النجاح الدبلوماسي المغربي المتمثل في اقناع أكثر من 16 دولة إفريقية في فتح قنصليات في مدن الصحراء المغربية، إضافة إلى تعبير عدد كبير من الدول في مختلف القارات رسميا عن مساندتها لتحرك الجيش المغربي في المنطقة العازلة لوضع حد ” للقرصنة البرية ” التي قامت بها ميلشيات الانفصاليين ،وذلك بقطعها لطريق تجاري دولي مع غياب أي تنديد من أي دولة ذات وزن بما قامت به القوات المسلحة الملكية بشكل احترافي وسلمي،والذي يدخل في إطار القانون والشرعية الدوليين،وحق الدفاع الشرعي عن الوطن وأمنه القومي ومصالحه الاستراتجية في احترام تام لالتزامات المغرب الدولية التي تسهر على مراقبة التقيد بها الأمم المتحدة، والتي وثّقت بعثتها في المنطقة جميع خروقات الجبهة منذ 3 أسابيع، وعجزت هذه الأخيرة عن إرجاع الأمور الى نصابها ،خاصة أن الجيش المغربي لم يطلق رصاصة واحدة ضد المدنيين الذين قدمتهم الجبهة كدروع بشرية في خرق سافر آخر للقوانين الدولية…
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد ،بل عمل الجيش المغربي على بناء جدار أمني يمنع تكرار ما حدث مستقبلا ،وهو ما يشكل فعلا تحولا استراتيجيا في الصراع المفتعل حول السيادة على المناطق الجنوبية للمملكة.
وبناء على كل ما سبق ، نستنتج بأن حكام قصر المرادية وصنيعتهم الجبهة الانفصالية قد اثبتوا مجددا سوء تقديرهم وخطأ قراءتهم لحكمة وتبصر واعتدال الخطاب الرسمي المغربي وجنوح نظامه للسلم والحوار في حل القضية ،وهو ما جعلهم يتمادون ويتجرؤون على القيام بخطوة انتحارية لم يجد المغرب معها أي بديل سوى تحريك جيشه لضمان أمنه القومي بعد استنفاذه لكل الوسائل السلمية والوساطات الدولية لفرض القانون ،واحترام اتفاق وقف اطلاق النار الذي ترعاه الأمم المتحدة التي اثبتت فشلها في ضمان احترام التقيد ببنوده . وهذا ما يثبت بأن تلويح ملك البلاد محمد السادس القائد الأعلى للقوات المسلحة الملكية بالصرامة في مواجهة استفزازات الجبهة لم يكن كلاما للاستهلاك الإعلامي مثلما تفعل قيادة الجيش الجزائري الراغبة في تصريف أزمتها مع شعبها المنتفض منذ أكثر من سنة نحو الخارج ،ولا قيادة الجبهة التي تخوض منذ 13 نونبر الحالي حربا ” إعلامية ” ضد المغرب وصلت خلالها لإصدار 12 بلاغ عسكري عما تقول أنها هجمات ضد الجدار الدفاعي المغربي متحدثة عن خسائر مادية وبشرية لا توجد إلا في مخيلتها ومخيلة محتضنيها وأبواقهم الإعلامية وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي…
وللحديث بقية.
*أستاذ الفلسفة بالثانوي التأهيلي وباحث في العلاقات المغربية الإفريقية