24 ساعة ـ متابعة
رغم التردد وعدم اليقين الذي طبع الأسابيع والأشهر الماضية، بدد الحراك الشعبي في الجزائر كل الشكوك، وبدا أنه في طريق العودة إلى زخمه القديم الذي توقف قبل عام بسبب جائحة كورونا. ففي الثاني والعشرين من فبراير اهتزت شوارع العاصمة كما باقي ربوع البلاد بصراخ وهتافات المتظاهرين بشعارات تدعو للديموقراطية ودولة الحق والقانون وإبعاد المؤسسة العسكرية عن إدارة الحياة السياسية. حراك طالب ليس فقط برحيل الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ولكن أيضا برحيل النظام بأكمله القائم منذ عام 1962 وفقا لشعار “اتنحاو غاع” (فليرحلوا جميعا).
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “يونغه فيلت” الألمانية “خلال شهور لم يكن من الممكن معرفة ما إذا كانت سياسة القمع التي اتبعتها الدولة قد جعلت حركة الاحتجاج “الحراك” في موقف دفاعي. غير أنه بات الآن واضحا أن الاحتجاجات أصبحت أكثر حيوية من أي وقت مضى، خصوصا بعد أن تمت تعبئة الطلاب بالفعل يوم الثلاثاء وانطلاق العديد من الاحتجاجات الصغيرة، التي تؤشر على ظهور مظاهرات واسعة النطاق على مستوى البلاد مرة أخرى أيام الجمعة”. ورغم الإجراءات الأمنية وتوقيف بعض النشطاء، تمكن بضع عشرات من الطلاب من التجمع قرب المسرح الوطني وهم يرددون “نحن طلاب ولسنا إرهابيين” و”صحافة حرة، عدالة مستقلة” و”جزائر حرة وديمقراطية”.
“لسنا هنا للاحتفال نحن هنا للمطالبة برحيلكم”
كان هذا من أقوى الشعارات التي رفعها المتظاهرون الذين يعتبرون أن النظام القائم يحاول الاستحواذ على الحراك وتسويق ذكراه الثانية كاحتفال وليس كمواصلة للمطالب الشعبية. فالرواية الرسمية تصفه بـ”الحراك المبارك الأصيل” وتعتبر أن كل المطالب تمت الاستجابة إليها وفق أجندة الرئيس عبد المجيد تبون وأهم عناوينها: تغيير الدستور وحل البرلمان وتعديل الحكومة وبرمجة انتخابات تشريعية في أفق بناء “الجزائر الجديدة” كما يحلو للإعلام الرسمي أن يسميها، غير أن المتظاهرين يعتبرون أن “الجزائر الجديدة” لا تختلف كثيرا عن نظام الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي حكم البلاد طيلة عقدين.
الحراك قد يصبح أقوى من أي وقت مضى”
أولى التظاهرات بدأت قبل خمسة أيام من الذكرى الثانية وبالضبط في بلدية خراطة بشرق البلاد التي أصبحت تُعرف بمهد الحراك، وشهدت في 16 فبراير تظاهرات حاشدة، في مؤشر على احتفاظ المطالب الشعبية بحيوتها كما قبل عامين. صحيفة “دير شتاندارد” النمساوية كتبت (23 فبراير) أن الحراك “يمكن أن يصبح أقوى من أي وقت مضى” معتبرة أن الطبقة الوسطى كانت المحرك الرئيسي لاحتجاجات عام 2019.
الوضع الاجتماعي في الجزائر تدهور منذ ذلك الحين وبشكل كبير، حسبما أوضح رشيد عويسة من جامعة ماربورغ الألمانية، الذي استشهدت الصحيفة بكلامه، حيث قال إن “منتمين للطبقة الوسطى انزلقوا إلى الفقر في ظل الزيادات الحادة في أسعار المواد الغذائية”. وبالتالي فمن المحتمل أن يكون هدف النظام بإنهاء الاحتجاجات صعب التحقيق، وذلك رغم ما دأب عمار بلحيمر، المتحدث باسم الحكومة ووزير الاتصال، على ترديده بالقول إن العمل الذي قام به الرئيس تبون خلال عام “بدأت ثماره تظهر للعيان”، محذرا من الخروج الى الشارع مرة أخرى.
أية آفاق لحراك بدون رأس ولا قيادات؟
رسميا ليست هناك شخصيات أو هيئات تمثل الحراك، فالمتظاهرون يصرون على الطابع الشعبي للاحتجاجات ويتعمدون الابتعاد عن الأحزاب القائمة بمن فيها المعارضة. وهم لا يثقون في المؤسسات القائمة التي يعتبرونها ملاذًا للفساد والمحسوبية تخترقها آليات الدولة العميقة والمخابرات السياسية. غير أن ما يشكل قوة الحراك هي أيضا نقطة ضعفه، فلا يمكن تجسيد أجندته دون ممثلين وقيادات تتحدث باسمه وقادرة على التفاوض مع النظام. وبهذا الشأن كتبت صحيفة “نويه تسوريشه تسايتونغ” السويسرية أن “أزمة الديمقراطية في العالم العربي هي أيضا أزمة تمثيل سياسي. الأحزاب مؤسسات استبدادية وفاسدة ومتحجرة، فيما فشل النشطاء الديمقراطيون حتى الآن في إيجاد بدائل”.
أي حظوظ لانتصار الحراك؟
حاول كل من إيزابيل فيرنفيلس ولوكا ميهه من “مؤسسة العلوم والسياسة” (SWP) في برلين، الإجابة عن سؤال: من سينتصر في الجزائر، الحراك أم النظام (14 فبراير 2020)؟ وأكد الباحثان أن أهم إنجازات الحراك هو التعبئة الجماهرية وإعادة تسييس المجتمع الذي ظل بعيدًا عن المشاركة السياسية لسنوات عديدة بسبب حظر التظاهر وقمع الأجهزة الأمنية، إضافة إلى صدمة الحرب الأهلية في التسعينيات وسياسة الريع التي اتبعتها الدولة بسبب الطفرة النفطية.
ويرى الباحثان أنه “بدون بديل واضح لـ “أجندة إصلاح” تبون وبدون هيكل تنظيمي، فإن المسيرات الأسبوعية تخاطر بأن تصبح غاية في حد ذاتها. وهي بذلك توفر مداخل للنظام من أجل المراوغة والاستقطاب والتلاعب. هناك بالفعل خلاف عميق حول كيفية التعامل مع عروض النظام للحوار ومدى التنوع (الثقافي) الذي يجب أن يحتويه النموذج المستقبلي للمجتمع. وأخيرًا وليس بآخر، تفاقم الأزمة الاقتصادية التي قد تجعل المطالب الاجتماعية والاقتصادية تطغى على على المطالب السياسية”.
تدهور خطير لصناعة المحروقات
تأمل الحكومة الجزائرية في جذب شركات النفط العالمية للاستثمار في صناعة المحروقات على أمل إعطاء دينامية إنتاجية جديدة لقطاع يعتبر الممول الأول لخزينة الدولة. قطاع تراجع بشكل مطرد خلال العقد الأخير. غير أن مصادر الطاقة الأحفورية لم تعد تغري الرساميل العالمية، بسبب تداعيات جائحة كورونا من جهة والتوجه نحو الطاقات البديلة التي فرضتها التحديات المناخية. وقد أغفلت الحكومات المتوالية في الجزائر الاستثمار في القطاع، فتراجعت الصادرات كما الواردات سواء تلك المتعلقة بالنفط أو الغاز. وهذا ما دفع وكالة بلومبرغ الأمريكية للتساؤل بداية فبراير عما إذا كان يجب الاستمرار في اعتبار الجزائر دولة نفطية؟
وبالتالي فإن مشكلة النفط في الجزائر لا تتعلق فقط بسعر البرميل ولكن أيضا بتراجع الاحتياطيات الموجودة وتقادم التكنولوجيا المستعملة في استغلال حقول النفط والغاز. الجزائر كانت البلد الوحيد في منظمة أوبيك الذي لم يتمكن من تصدير كامل الحصة المخصصة لها بموجب اتفاق دجنبر 2020. وهكذا لم تتمكن البلاد حتى من الاستفادة من التحسن الطفيف مؤخرا للأسعار العالمية، بعد ارتسام آمال عريضة لآفاق الخروج من جائحة كورونا وبالتالي استعادة الاقتصاد العالمي لعافيته. كل هذه العوامل تنذر بأيام عصيبة أمام الاقتصاد الجزائري، فقد قدرت شركة “كوفاكس” الفرنسية للتأمين وإعادة التأمين احتياطات النقد الأجنبي للبنك المركزي الجزائري بثمانية أشهر من الواردات وهو ما يوازي حوالي 23 مليار دولار فقط، وهي احتياطات كانت تقارب 200 مليار دولار حينما كانت أسعار النفط في أوجها إبان حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة. ففي عام 2019 على سبيل المثال لا الحصر أنتجت الجزائر 86.2 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي ما مكنها من الاحتفاظ “بالكاد بالمركز العاشر بين أكبر المنتجين في العالم. فقد انخفض الإنتاج السنوي للجزائر 8.1 في المائة أقل مقارنة مع “2018”، حسبما ذكر موقع “كابيتال دي.إي” الألماني.
يذكر أن صحفا ومواقع أجنبية تسخدم حاليا كلمة “Hirak” بالأحرف اللاتينية للدلالة على “الحراك” الجزائري، وبذلك ينضم الحراك إلى أحداث مهمة أخرى في البلدان العربية أصبحت مصطلحات في اللغات الأجنبية.