عبد الله بوصوف
يعكف العديد من المفكرين و المثقفين داخل صالونات ثقافية أو مجموعات تفكير( تينك تانك ) لمحاولة استشراف المرحلة القادمة ، و فك خيوط العديد من المعادلات التي تتحكم في خرائط الاقتصاد و المال و التحالفات السياسية و العسكرية و كشف أنماط جديدة للقوة الناعمة… و ليس غريبا أن نقف على إختلاف وجهات النظر في أغلب مُخرجات و خُلاصات تلك المجموعات ، و هذا راجع بطبيعة الحال الى اختلاف الخلفيات الاديلولوجية و القناعات الفكرية لتلك المجموعات او صالونات الثقافية..لكنها تشترك في قواسم موضوعية فرضتها الظرفية السياسية و التحالفات الاستراتيجية و اكراهات الأزمة الاقتصادية العالمية و كذا جائحة كوفيد 19..
إذ لا يمكن الإدعاء بموضوعية أي قراءة استشرافية للمستقبل، بدون التوفر على قراءة واقعية لهذا المستقبل المحفوف بالتحديات و الاكراهات و في نفس الوقت ضرورة ضخ جرعة من الأمل و تخصيص مساحات إيجابية في رقعة القراءة ، رغم كل ما نعيشه و نقرؤه عن مآسي هنا وهناك…لأنه لا يمكننا الحديث عن المستقبل بدون إشراقات أمل..
فالقراءة الواقعية لما عليه العالم اليوم ، يطغى عليها مصطلح ” الأزمة ” ، فهناك أزمة قيم أخلاقية ، و أزمة أيديولوجيات تحتاج لمراجعات قوية، و أزمة تحالفات سياسية و اقتصادية صِيغَت في سياقات مغايرة ، و أزمة تدبير ملفات شائكة مثل الهجرة و الإرهاب الدولي و الاسلاموفوبيا…و رغم ذلك فان العالم يحاول الانبعاث من جديد ، رغم كل أزماته…
لكن و نحن نحاول القيام بتلك القراءة تستوقنا محطتين هامتين ، أولها جائحة كورونا و ثانيها نهاية التروبيزم ، لما لهما من تداعيات عالمية جعلت أغلب الدول تعيد تريتب بيتها الداخلي و أولوياتها ، و من بين تلك الدول طبعا وطننا المغرب..
فمن السهل جدا، الانخراط في حفل ” البكاء الجماعي ” عندما يتعلق الامر بالتفكير في مستقبل المغرب بكل رهاناته و تحدياته و إكراهاته..لكننا في الوقت الراهن نحتاج الى الموضوعية و أيضا للكثير من الأمل و الرفع من معنويات كل الفاعلين و كل الفرقاء في هذا البلد..اننا نعتقد انه لا جدوى من الإفراط في النقد لدرجة جلد الذات، لكن النقد البناء هو مُرحب به لانه ينقلنا الى فُسحة التصحيح و التعديل و الأمل..
نعم فالواقعية تُلزمنا بالقول ان هناك خصاص في العديد من القطاعات ببلادنا و أن هناك أزمات في تدبير العديد من الملفات و الإعتراف بوجود الكثير من الانزلاقات و الإخفاقات…لكن نفس الواقعية تلزمنا بالقول بان المغرب كانت له الجرأة بالاعتراف بضرورة تغيير العجلة و أن طرح تصور جديد للنموذج التنموي بمقاربة تشاركية هو ضرورة حتمية ، كما استطاع تجاوز امتحان جائحة كورونا بأقل الخسائر مقارنة مع دول قريبة جغرافيا أو متقاربة في الوضعية الاقتصادية…
لذلك فإن أي قراءة اليوم ، لواقع و مستقبل المغرب مثلا تغيب عنها تداعيات كورونا تبقى قراءة هشة و صورة تنقصها العديد من الأجزاء و المكونات..و هذا ما يعلل تأخير تقديم تصور للنموذج التنموي الجديد مثلا..حتى تُتَاح الفرصة للنموذج التنموي الجديد لإستيعاب ما عرت عنه الجائحة من أعطاب اقتصادية و إجتماعية و ثقافية ..
و نفس الشيء يقال عن أي قراءة لا تستحضر الاستحقاقات القادمة، و ما حمله القانون التنظيمي الجديد من بشائر التخليق و المساهمة في صناعة جيل جديد من الفاعلين السياسيين و الحزبيين ، و الانتصار للنوع من خلال التمييز الإيجابي بالرفع من تواجد نون النسوة في كل المجالس المحلية و الجهوية و البرلمان…لان المشهد الحزبي بالمغرب و تجديده و تدعيمه بمراكز التفكير و قنوات التواصل و ضخ دماء جديدة و وجوه جديدة..هو أحد الرهانات المستقبلية للمغرب…
و كل قراءة تُهْمِل هندسة الثورة الاجتماعية في الأفق القريب و المتوسط سواء على مستوى توسيع التغطية الصحية او التغطية الاجتماعية…تجعل منها قراءة مجانبة للواقعية و لا تقف على أرضية صلبة..
كما انه لا يمكننا قراءة مستقبل المغرب بدون استحضار مستجدات ملف الوحدة الترابية و الوطنية..أي الصحراء المغربية ، سواء من خلال قراءة لكل قرارات مجلس الامن الدولي خاصة في السنوات الأخيرة التي تدعم مبادرة الحكم الذاتي كحل واقعي و سياسي توافقي و سلمي.. أو من خلال افتتاح القنصليات بمدينتيْ الداخلة و العيون بالصحراء المغربية ، أو أخيرا من خلال اعتراف الولايات المتحدة الامريكية بمغربية الصحراء الى الحدود الموريتانية.. و ضم هذا أوراق هذا الاعتراف بالاوراق الرسمية للقضية داخل مجلس الامن الدولي المكلف بشكا حصري بملف الصحراء المغربية..
لأن من شأن هذه الإعترافات و تدشين القنصليات أن يُساهم في جعل المناطق الجنوبية المغربية أكثر ” جذبا ” للاستثمارات الأجنبية و بالتالي تساهم في التنمية الاجتماعية و الاقتصادية و تربط المغرب بعمقه الإفريقي…
وهي قراءات في مُجملها شِئنا أم أبينا تغلب عليها كفة الأمل في مغرب يجتهد من أجل التصحيح و التعديل و البناء…مغرب مراكز التفكير و الطاقات الشابة سواء بالمغرب ، أو من مغاربة العالم الذين يشكلون خزانا كبيرا من الكفاءات و الخبرات الواعدة و يساهمون في دعم عناصر التنمية الاجتماعية و المجالية بالمغرب..إذ لا يمكن قراءة مستقبل المغرب بدون إشراك مغاربة العالم…
و بطبيعة الحال، فان قراءة المستقبل بتحدياته و رهاناته ، تعني أيضا ما يقع خارج المغرب سواء في البيت الافريقي او بالمتوسط أو بالدول الاوربية و كذلك بالولايات الأمريكية.. و هنا أيضا اثرت أولا ، جائحة كورونا في تغيير الكثير من الميكانيزمات التي كانت تحكم العلاقات الدولية ، و تصدرت آليات جديدة في مجالات التحالف أو التفاوض كديبلوماسية الكمامات مثلا او الديبلوماسية الصحية كنوع جديد من القوة الناعمة، و سباق المختبرات العالمية من أجل التوصل الى لقاح فعال للكوفيد 19..
كما عرت كورونــا عن ازمة غير مسبوقة للعلمانية في الدول الغربية ، عندما تم إغلاق الفضاءات العمومية للعبادة بأوامر السلطات الحكومية و ليس لرجال الدين ، و هو ما أثار حفيضة بعض رجال الكنيسة ، و خففت من حدته و تداعياته فقط بعض قرارات و تصريحات الفاتيكان…
كما أثرت ثانيا ، نهاية ” الترومبيزم ” بإعلان تغييرات في معالم العالم بعد زمن كورونا و في تكتلاته و أحلافه.. وتغيير بوصلة العالم و الايدولوجيات من ترويج لفكرة ” الحروب التجارية ” الى تبني فكرة جديدة أي ” الحروب الثقافية “…
وهكذا فان أغلب المحللين ينحازون لفكرة إحياء نقاشات التاريخ و الإرث التاريخي للدول الاستعمارية ، و التاريخ المشترك بين للدول المُستعمَرة و الاستعمارية بين الجاليات في الدول الغربية ، بالإضافة الى مواضيع الإسلام و العلمانية و الانعزالية الإسلامية و المسلمون في البدان الغربية و إشكالية الرموز الدينية و طرح إشكاليات معرفية و تاريخية تتعلق بشكالية المقابر مثلا في الديانات المختلفة و كذا الدعوة الى إعادة قراءة الثرات..
هذا دون إغفال الإشارة الى ما يُعرف الآن ب cancel culture أو ” ثقافة الإلغاء ” بالدول الغربية ، و التي انتشرت بقوة خاصة بعذ مقتل الافروامريكي جورج فلويد في ماي 2020 و ما تبعه من موجه استنكار و مسيرات عارمة و تدمير تماثيل شخصيات عالمية اشتهرت في مجالات الاكتشافات الجغرافية و كذا الفلسفة و الفكر و الفن …اتهمها انصار هذا التيار بالعنصرية و التمييز الجنسي..
لذلك فان الاعتقاد السائد الان ، هو ان المرحلة القادمة بعد نهاية فترة ترامب او ” الترومبيزم ” سيغلب عليه العنصر الثقافي و الحقوقي و التاريخي..وهو ما يعني الاتجاه من ساحة الحروب التجارية الى ساحة الحروب الثقافية…