يوسف اكمير
سنحاول من خلال هذه الورقة استنطاق مجموعة من الوثائق التاريخية، التي ستمكننا من تسليط الضوء على السياقات التاريخية التي تطورت فيها أهم أسباب اهتمام اسبانيا بالصحراء المغربية، وهو ما سيساعد على فهم دواعي هذا الاهتمام وفق طبيعة المرحلة، والعوامل التي تحكمت فيها؛ و التي يمكن أن نميز فيها بين ما هو اقتصادي كالثروة السمكية التي توفرها المياه الصحراوية لساكنة جزر الكاناري، وما هو سياسي داخلي كاقتراح مشروع استعماري بالصحراء واستعماله كأروقة دخان للتخفيف من حدة الأزمات والضغوطات السياسية الداخلية،
ومنها ما له علاقة بالسياسة الخارجية كالمشاركة إلى جانب قوى امبريالية عظمى كفرنسا وانجلترا وألمانيا في تصميم جديد لمفهوم التوازن الدولي وذلك عبر اتفاقيات ومعاهدات ذات طبيعة توسعية تحدد بنودها المناطق التي ستحتلها هذه القوى.
بالإضافة إلى كل العوامل السالفة الذكر هناك عامل أخر أسهم في تطور تطلعات اسبانيا الاستعمارية بالصحراء المغربية وهو قربها الجغرافي من جزر الكاناري. إذ تكشف مجموعة من الوثائق التاريخية عن الكيفية التي استعملتها اسبانيا بخصوص هذه المسألة للمطالبة بحق احتلال الأراضي المقابلة للأرخبيل الكاناري، مبررة ذلك بالحفاظ على أمنها الاستراتيجي القومي.
فما هي إذن الظرفية التاريخية التي صيغت فيها هذه الوثائق؟ وما هي القضايا التي تناولتها؟ وأين يكمن تناقض الطرح السياسي الذي تبنته اسبانيا فيما يخص مسألة الصحراء المغربية؟
1. الصحراء المغربية في الوثائق الاسبانية خلال القرن الثامن عشر
ـ المجموعة الأولى من هذه المادة الوثائقية تنتمي إلى النصف الثاني من القرن الثامن عشر وهي فترة تزامنت مع حكم سيدي محمد بن عبد الله وكارلوس الثالث. والجدير بالذكر ان المغرب وإسبانيا خلال هذه الفترة كانت علاقتهما الدبلوماسية جد متينة ميزها التعاون والاحترام المتبادل، بحيث وقعا معاهدة سلام وتجارة سنة 1767.
أولى هذه الوثائق التي سنحيل على مضامينها هي عبارة عن مراسلات متبادلة بين وزير الخارجية كوندي فلوريدا بلنكا وممثله بطنجة والحاكم العسكري العام لجزر الكاناري، حول احتجاز 27 صيادا كناريا بسواحل بوجدور، والإجراءات التي اتخذها سلطان المغرب لتحريرهم. لكن ما يهمنا من هذه الوثائق هي حمولتها التاريخية باعتبارها أولى المراسلات الدبلوماسية الاسبانية التي تؤرخ لموضوع الصحراء. هذا بطبيعة الحال إذا ما استثنينا اتفاقية السلم والتجارة لسنة 1767 أو وثائق أرشيف البرتغال حول استعمار الثغور المغربية، والتي يعود تاريخها إلى بداية القرن 15 حتى منتصف القرن 18 بعد استرجاع مزكان. ورغم أنها ركزت على موضوع الأسرى الكاناريين فإن نصوصها تكشف عن قضايا هامة تتعلق بوحدة المغرب الترابية وبسيادته على أراضيه الصحراوية. لنطلع إذن عن بعض النصوص التي استقيناها من هذه الوثائق:
النص الأول هو عبارة عن رسالة مؤرخة بـ 3 نوفمبر 1784، تلقاها وزير الخارجية الاسباني من القائد العام للجيش بجزر الكاناري بحيث يخبره فيها بأنه “بعد أن خرجت سفينة الصيد نوسترا سنيورا ذي لاس أنكوستياس من جزيرة كران كنارياس في أواخر غشت من هذه السنة وعلى متنها 27 صيادا، وبعد أن قامت بالبحث عن موضع للنزول قصد تمليح ما اصطاده الرجال من أسماك كان من سوء حظها أن أرست برأس بوجدور، وهو مكان يوجد بالساحل الإفريقي الذي هو تحت سيادة ملك المغرب. هذه الفاجعة التي اهتزت لها قلوب 80 شخصا من أسر الصيادين، اخترقت أيضا قلوب وزراء مجلسنا والذين توسلوا إلي لأبلغكم بهذا الخبر راجيا من عنايتكم إخبار جلالة الملك بذلك ليطلب من ملك المغرب الإفراج عن هؤلاء الأشخاص ويطمئن أهلهم وذويهم”.
ما يمكن استخلاصه من هذه الوثيقة، هو اعتراف السلطات الاسبانية بسيادة السلطان في الأماكن التي أسر فيها الصيادون الكناريون، وأن عملية الإفراج عنهم يجب أن تمر عبر قنوات دبلوماسية يكون فيها السلطان الممثل الشرعي والأسمى لبلده.
في 25 من يناير من سنة 1785، تلقى القائد العام للجيش بالأرخبيل الكاناري مراسلة من وزير الخارجية الاسباني تفيد بإجراءات قنصل اسبانيا بطنجة قصد تسريع وتيرة عملية الإفراج عن الأسرى المحتجزين في رأس بوجدور، بحيث يخبره بأنه “ردا على مراسلتكم التي تستعرضون فيها مشكلة سفينة الصيد نوسترا سنيورا ذي لاس أنكوستياس، التي خرجت من جزر الكناري في أواخر غشت وتم حجزها في رأس بوجدور، أخبركم بأن قنصلنا في طنجة، عناية خوان منويل سلمرون قد توصل بالخبر وقام بعدة إجراءات قصد تحرير هؤلاء الصيادين، لكنه فوجئ بأنهم لازالوا محتجزين في الموضع نفسه الذي أرست فيه سفينتهم، وهم تحت سلطة الأمير مولاي “عبد الرحمان”، ابن ملك المغرب الذي يرفض الدخول تحت طاعة أبيه”.
حول الموضوع نفسه توصل وزير الخارجية الاسباني ما بين 27 و28 من يناير من سنة 1876 من ممثله بطنجة برسالتين، تفيد الأولى، “أن الإجراءات التي يقوم بها جلالة ملك المغرب من أجل الإفراج عن المواطنين الكناريين المحتجزين في واد النون لا يمكن لها إلا أن تعكس ارتياحا كبيرا في أعماقنا ذلك أنه كلف ابنه مولاي عبد السلام الموجود في تارودانت استكمال عملية تحرير باقي الأسرى”.
أما في الرسالة الثانية فيؤكد فيها القنصل خوان منويل سلمرون أنه تلقى من موغادور خبرا يفيد “بأن جلالة ملك المغرب أصدر تعليمات صارمة ليهودي يدعى موردخاي دي لمار ليسهر على عملية الإفراج عن 27 أسيرا اسبانيا محتجزين في واد نون، وأن اثنين منهم قد تم تحريرهم ونقلهم إلى موغادور، وثمانية آخرين هم في مرافقة المولى عبد الرحمان الذي سيأتي قريبا لاستعطاف أبيه وطلب العفو منه بعد أن ثار ضده وذهب إلى الصحراء”.
في 4 من شتنبر من السنة نفسها راسل القنصل الاسباني بطنجة وزير خارجية بلده ليخبره بأنه، “وصل أمس إلى هذه المدينة سيدي التاجر فانيكس الذي سلمني الأسبان العشر المعفى عنهم وسأرسلهم قريبا في سفينة نحو سبتة ليعودوا إلي ديارهم. وقد وصلوا في أحسن حال وبأبهى الملابس ذلك أن السلطان وفر لهم كل وسائل التطهير والتنظيف قبل إرسالهم إلى هنا، وبهذا نكون قد استوفينا عدد الأسرى المحررين، بحيث لم يبق لنا في واد النون غير صبي واحد تحول إلى “مورو” حسب الأخبار التي وردتني، فسيّده كان يجبره على ممارسة هذه الطقوس المتطرفة، وبما أن احتجازه فاق سبع سنوات فهو لم يستطع مقاومة جبروت سيده المتوحش وبالتالي قد يصعب استدراكه، أما اثنين آخرين فقد أخبرت بوفاتهم. إذا ما استثنينا إذن، هؤلاء الثلاثة من 24 سلمنا إياهم جلالة ملك المغرب نكون قد استكملنا تحرير عدد الأشخاص الذين كانوا على متن السفينة”.
ما يمكن أن نستشفه من هذا النص هو أن جميع إجراءات الإفراج عن الأسرى الكاناريين كانت تجري بإشراف السلطان، وأن الصيادين احتجزتهم ساكنة المنطقة التي سلمت كل الأسرى لمولاي عبد الرحمان، والذي سلمهم بدوره للسلطان سيدي محمد بن عبد الله. وأن إشراف السلطان الشخصي على مسألة الإفراج عن الأسرى الإسبان يعكس مدى إيمانه بضرورة الحفاظ على السلم وحسن الجوار و تطوير العلاقات التجارية مع اسبانيا. عموما فالاطلاع على محتوى مختلف هذه المراسلات قد يؤهلنا للقيام بالاستنتاج التالي:
1ـ إن السلطات الاسبانية تعترف بوحدة المغرب الترابية وبسيادته على أراضيه الصحراوية.
2ـ أنها تعترف بالسلطان وتعتبره بمثابة الممثل الشرعي لرعاياه في المغرب قاطبة.
3 ـ أنها تعتبر احتجاز مولاي عبد الرحمان لهؤلاء الصيادين هي حالة خاصة ناتجة عن سوء تفاهم بين الأب السلطان و”الابن” الأمير، وبما أن هذا الأخير سيستعطف أباه ويطلب منه العفو فإن الجهود الرامية إلى تحرير الأسرى الاسبان ستكلل بالنجاح.
4- أن إشراف السلطان على عملية الإفراج عن الأسرى الكناريين تعكس أيضا أجرأة بنود الاتفاقية الاسبانية المغربية الموقعة سنة 1767 والتي يخوّل فيها للصيادين الاسبان حق النزول بشواطئ المغرب الجنوبية لتمليح الأسماك. المثير للفضول هو أن هذه البنود من المعاهدة ستستعملها اسبانيا في المراحل اللاحقة خارج إطارها السياسي والتاريخي لتحتل أفني وتنطلق في حملاتها التوسعية لاحتلال الصحراء المغربية.
أستاذ التعليم العالي بجامعة ابن زهر، اكادير