محمد الشمسي
شهدت عدد من الأعمال التي تسمى مجازا ب”الفنية” غضبا من لدن عدد من المهنيين الذين يرون فيها تنقيصا من مهنتهم، مثل العدول والمحامون والممرضون وعمال السكك الحديدية، وخرج بعض”الفنانين” يتباكون ويشكون التضييق على “أعمالهم”.
طبعا إذا حاصرنا الخيال الفني من الجهات الثمانية فإننا سنخنقه خنقا، مادام الفن مرآة عاكسة لواقع ثقافة أو مهنة أو تيمة، لكن الاختلاف الذي يثور بيننا هو أي ميزان نقيس به الابتكار من الاستهتار والفن من العفن؟، هل نقيسه بميزان مزاجي يقوم على “عيان” و “واعر”؟،أم نقيسه بنسب المشاهدة وبدعة “الطوندونس” التي جعلت “روتيني اليومي” مقاولة مدرة للدخل؟، هل نقيسه بميزان “الناس عايزة كده”؟.
الجواب هو لا هذا ولا ذاك، تقاس الأعمال الفنية بميزان الفن نفسه، الذي هو ميزان من جنس العمل، مثلما تقاس الموسيقى بميزان الموسيقى، ومثلما تقاس الأحكام بميزان تطبيق القانون، فللعمل الفني الحقيقي أحكام وفرائض وشروط، وإلا كان مسخا و وبالا يهدد الناشئة ويفسد العقول، فأما السيناريو فيجب أن يكون حاملا لقضية هامة سائدة مؤثرة في المجتمع، يكتبها كاتب متمكن مطلع عالم عارف بجوهر ها صاحب ملكة في تحويل الجد إلى هزل، والأداء يكون محترفا بارعا مهاريا بحوار مفيد منسجم، وحركات حذقة غير مستهجنة ولا حقيرة، بعد “كاستينغ” يستحضر الموهبة والجدية والملائمة بين الشخص والشخصية، بعيدا عن “باك صاحبي”، أو”الدور مقابل الجنس”، وبعيدا عن الترنح “وتخسار السيفة والتعواج”، مرورا بالإخراج الذي يجب أن يوظف المؤهلات التقنية خير توظيف من إضاءة وزوايا وموسيقى ومشاهد، دون نسيان الديكور والملابس وغيرها من الإيتيكيت التي تجعل العمل لوحة إبداعية، إذا توفرت هذه الشروط فهذا عمل متقن بارع مهاري فيه خلق وإتقان وهو شجرة مثمرة تعود بالنفع على المشاهد وعلى الأجيال، وحتى أهل المهنة المستهدفة يجدون في ذلك العرض الطيب الكثير من الصواب، ولسان حالهم يقول”كون عا سبع وكولني”، ولكم شاهدنا الإخوة المصريين في أفلام سينمائية ومسلسلات تلفزيونية رائدة فنيا ـــ عندما كانت مصر أم الدنيا فعلا ـــ يقدمون مهنة من المهن في قالب ساخر مثل الطبيب والمحامي باعتبارهما أكثر المهن احتكاكا بالناس، في صيغة إبداعية راقية وخلاقة تنسي أهل تلك المهن كل غضب، فلم تحتج نقابة المحامين ولا نقابة الأطباء في مصر وما أدراك ما وزن هاتين النقابتين ومدى الصلاحيات الممنوحة لهما، و أتحدث هنا عن مصر ما قبل العسكر.
لكن أن تنبري بعض الطفيليات من العالات على المجتمع، ممن يظنون أن “بطاقة الفنان” تصنع الفنان، فينتجون بذاءة وسفاهة يفسدون بها الفن ويلوثونه، قبل أن يسيئوا للمشاهد ومن بعده لمهنة من المهن، فهذا ليس عملا ولا خيالا فنيين بل هو احتقار واستحقار يمقته الفن ويستهجنه ويرده على أهله، ثم هو جريمة يعاقب عليها القانون، وكان حري بأهل الفن أن يوقفوه على التو، لأن حماية القذارة تهدد الجدارة.