محمد ازكرار
ما عرفته مؤخرا مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين من تدفق أعداد قياسية وغير مسبوقة من المهاجرين السريين شكل صدمة لاسبانيا وبعثر أوراقها الداخلية ووصلت حرارة هذا النزوح الجماعي إلى أروقة الاتحاد الأوروبي الذي سارع عبر مفوضيته في بروكسل إلى مطالبة المغرب بحماية المدينتين والالتزام بالوقوف إلى جانب اسبانيا ومساندتها في محنتها.
هذا الحادث الخطير أعاد ملف الهجرة إلى الواجهة من جديد باعتباره من القضايا الكبرى التي قامت عليها الشراكة و التعاون بين الاتحاد الأوروبي والمغرب لعقود من الزمن ، بحيث كان يراد لهذا الأخير (أي المغرب) أن يلعب دور الدركي النجيب الذي تنتهي مهمته عند صد المهاجرين السريين ومنعهم من الوصول إلى الفردوس الأوروبي.
لقد ظل الاتحاد الأوروبي يتحدث لسنوات لغة الخشب مع جاره الجنوبي زاعما أن المغرب يتمتع بوضع الشريك المتقدم لأوروبا غير أن هذه التوصيف المزعوم لم يستفد منه المغرب كثيرا بل كانت الدول الأوروبية وخاصة فرنسا واسبانيا هي المستفيدة الكبرى من خلال حزمة من الامتيازات التي منحت لها في الصيد البحري والفسفاط والفلاحة والاستثمارات وغيرها. ورغم كل هذه الأفضلية التي تعامل بها المغرب مع عدد من الدول الأوروبية إلا أنها لم تراعي في المقابل مصالح المغرب وخاصة في ملف الصحراء التي ظلت تختبئ وراء مواقف تقليدية متجاوزة قائمة على الحياد و الرمي بالملف إلى ملعب الأمم المتحدة باعتبارها الطرف المعني بحل القضية بهدف الحفاظ على مصالحها مع كل أطراف الصراع أي المغرب والجزائر.
غير أن المغرب بدأ مؤخرا في تغيير سياسته الخارجية التي بدت إلى حد ما هجومية وأكثر صرامة ،أملتها توازنات جيوستراتيجية جديدة ، ولعل ما عزز هذا التوجه المغربي الجديد هو ذالك الاعتراف الأمريكي الثمين الذي حصل عليه من إدارة ترامب في أنفاسها الأخيرة.
هذا التغيير الواضح في السياسة الخارجية المغربية ترجمته علاقة الشد والجذب والتعامل بالند للند في الأزمة التي ظهرت مؤخرا بين المغرب وعدد من الدول الأوروبية بعد تورط عدد منها في القيام بأفعال معادية للمغرب وإزالة اللثام عن نفاق وخبث نواياها وخاصة دولتي ألمانيا واسبانيا ، حيث أصبح من المفروض على المغرب مراجعة كل أوجه الشراكة والتعاون التي تجمعه بالطرف الأوروبي وإعادة النظر في كل الاتفاقيات التي وقعت بين الجانبيين بشكل يخدم مصالحه ويحفظ حقوقه القومية.
لذلك يمكن اعتبار الهجرة من الأوراق الرابحة التي حان وقت استخدمها من قبل المغرب في علاقاته مع دول الاتحاد الأوروبي للضغط عليها من اجل الأخذ في الحسبان مصالحه وانشغالاته وانتزاع مواقف مؤيدة ومنسجمة مع الطرح المغربي وخاصة مملكة اسبانيا باعتبارها الدولة المتأثرة مباشرة بهذه الظاهرة.
لقد أظهرت مجموعة من الأحداث والوقائع تكالب الأوروبيين وسوء نيتهم ونهجهم سياسة الكيل بمكيالين في تعاملهم مع المغرب ، وقد تجلى ذلك في محاولة بعض القوى الأوروبية كألمانيا واسبانيا تحجيم الدور المغربي في محيطه الجهوي بالإضافة إلى محاباة الانفصاليين وحمايتهم من المتابعة القانونية رغم الجرائم والانتهاكات الخطيرة التي ارتكبوها في حق عدد من المواطنين الصحراويين. لذلك أضحى من الضروري اليوم وأكثر من أي وقت مضى أن يلعب المغرب كل أوراقه الرابحة وفي مقدمتها ورقة الهجرة لتقوية موقفه التفاوضي مع الأوروبيين والدفاع عن حقوقه المشروعة ومصالحه العليا.
لقد بدا النفاق الأوروبي جليا في ملف الصحراء حيث ظل الاتحاد الأوروبي وخاصة اسبانيا الدولة المستعمرة سابقا لجهة الصحراء تسترزق من القضية وتلعب لعقود أسطوانتها المشروخة القائمة على دعم المسار الأممي وحث أطراف الصراع على الجلوس إلى طاولة المفاوضات . هذا الموقف الضبابي والمريح لأوروبا لم يعد ممكنا القبول به اليوم، ذلك أن التطورات الأخيرة في ملف الصحراء والتي سجل من خلالها المغرب نقطا هامة وثمينة لصالحه وخاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء أصبحت تفرض على الأوروبيين ضرورة الخروج من المنطقة الرمادية وإعلان موقفهم بشكل واضح وصريح من هذا الصراع : فإما دعم مشروع الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية في إطار الوحدة الترابية وتجسيد هذا الموقف على أرض الواقع من خلال فتح قنصليات للدول الأوروبية بالعيون والداخلة ،وإما دعم خيار الانفصال الذي تتبناه جبهة البوليساريو وصنيعتها الجزائر.
ما يجعل ورقة الهجرة ذات جدوى وفاعلية كبرى في الدفاع عن مصالح المغرب ولم لا استرجاع مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين هو مجموعة من الأمثلة الواضحة والمعروفة على الساحة الدولية والتي كان فيها سلاح الهجرة ناجعا بشكل كبير، ومن هذه الأمثلة نورد ما يلي:
– لقد استغلت تركيا ورقة الهجرة وخاصة المهاجرين السوريين الذين هربوا من جحيم الحرب في سوريا حيث حصلت بموجبها على عائدات مالية مهمة من أوروبا قدرت بحوالي 11 مليار دولار بالإضافة إلى مزايا أخرى تهم دعم الاقتصاد التركي ومساندة الموقف السياسي للأتراك في صراعهم مع الأكراد.
– قامت الصين باستعمال ورقة الهجرة لاسترجاع هونغ كونغ من بريطانيا سنة 1997 واستعادة مكاو من المستعمر البرتغالي سنة 2009.
– استطاعت روسيا بفعل ورقة الهجرة السيطرة على شبه جزيرة القرم التي كانت تتبع لأكرانيا، حيث كانت نتيجة الاستفتاء الشعبي الذي نظم بالجزيرة لصالح الروس الذين باتوا يشكلون غالبية سكان الجزيرة بفعل التوافد المكثف للمواطنين الروس على هذه الجزيرة .
هذه الأمثلة وغيرها تعد قريبة جدا إلى حالة مدينتي سبتة ومليلية المحتلتين و التي يمكن للمغرب استرجاعهما دون إطلاق أية رصاصة، لأن تبنيه لخيار المواجهة المسلحة المباشرة لا يخدم مصالحه على الإطلاق لأنه سيجد نفسه ليس في مواجهة مع اسبانيا وحسب بل في مواجهة مع الاتحاد الأوروبي وفي مواجهة أخرى مع الحلف الأطلسي. ليبقى خيار الحصار الاقتصادي القائم على خلق أقطاب اقتصادية قوية بالشمال (بين الناظور وطنجة) بالإضافة إلى خيار الهجرة الذي سيغير حتما من التركيبة الديموغرافية للمدينتين خيارين ناجعين لاسترجاع الثغرين السليبين.
الهجرة ماهي إلا ورقة من جملة أوراق أخرى ناجعة ومفيدة في حوزة المغرب و آن الأوان لاستخدامها كورقة الصيد البحري والتعاون الأمني ولاستخباراتي للضغط على الجانب الأوروبي والدفاع عن مصالحه الحيوية لان أوروبا الامبريالية لا تفهم إلا لغة واحدة هي القوة والردع.
طالب باحث بسلك الدكتوراه، جامعة عبد المالك السعدي-تطوان