محمد بن سيدي _ طنجة
في كل ذكرى وفاته، تبزغ من جديد خصوصيته وتفرده وتميزه من خلال عصاميته، وانطلاقته من “الصفر” صوب أحد أبرز أعمدة الأدب العربي، إنه الأديب مغربي الذي لم يتمكن من أبجديات القراءة والكتابة إلا عند نهاية عقده الثاني، إنه الظاهرة الأدبية والاجتماعية والثقافية بامتياز.. الأديب محمد شكري ، الأديب الذي شيد مجده الأدبي على “أساسات” روايته “الخبز الحافي”، هذا الأديب الذي شكل البؤس والتهميش والفقر عناوين بارزة لجل إبداعاته. هو الذي رفض الربط بين الأيديولوجيا والأدب.الأديب المنبوذ تعرض للعنات كثيرة في حياته بسبب ما يكتبه، ولكن بعد رحيله العديد من المهتمين يقولون أنه لازالت كتاباته تقرأ ولا زالت تكتشف، مادامت إبداعات مهمة لإلقاء الضوء على المهمشين والفقراء والمنبوذين في المغرب بل وفي الوطن العربي.
الأديب الظاهرة لايزال حاضرا..
شكري الأديب لازال حاضرا حيث يشكل مند وفاته سنة 2003 موضوعا لكتابات مختلفة تجعل منه نصا أحيانا ومشجبا أحيانا أخرى، إضافة إلى “استعمال” محمد شكري من خلال ندوات ومهرجانات ولقاءات… جنبا إلى جنبٍ مع جعله موضوع نقاشات مفتوحة وجلسات منفلتة وعلى النحو الذي جعل من فضاء مطعم “الريتز” الذي كان يرتاده محمد شكري في الفترة الأخيرة من حياته يحمل اسم “Le Pain Nu” في دلالة على نصه الروائي ــ السيري الأشهر “الخبز الحافي”. وفي جميع الحالات فنحن أمام “كاتب ــ ظاهرة”… طالما أنه تمكّن من أن يفرض ذاته خارج دوائر الكتابة المعهودة لدى الكتاب.رغم مرور أكثر من عشر سنوات على رحيله، لا يزال الجدل يرافق أعمال الكاتب المغربي محمد شكري ليصل أصداؤه إلى أسرته، وذلك بسبب تباين الآراء إزاء أسلوبه في تناول قضايا تعد من المحرمات في المجتمع المغربي المحافظ.
إرث شكري
نسلط الضوء على طبيعة النقاش حول إرث شكري المؤثر في الخطاب الأدبي العربي.بعد مرور عقد على رحيله، عاد الحديث في المغرب عن محمد شكري صاحب رواية “الخبز الحافي”، التي أثارت ضجة في الأوساط الثقافية المغربية بعد نشرها بالعربية عام 1982. “كان هناك إجماع على منعها في المغرب وفي عدد من الدول العربية، مباشرة بعد نشرها باللغة العربية، وهذا ما أعطى قيمة كبيرة للسيرة الذاتية الروائية”، يقول صديق محمد شكري الإعلامي عبد اللطيف بن يحيى في حديث سابق للصحافة.ويضيف في “روايته يتحدث محمد شكري عن حياته البائسة وطفولته التي عاشها متشرداً في طنجة بعد أن قدم من الريف، مما جعل منها وثيقة اجتماعية تعكس الحالة التي كان يمر منها المغرب، خلال مرحلة الأربعينات من القرن الماضي”.
ورواية “الخبز الحافي” هي التي أدخلت مؤلفها للمجد الابداعي، وقد كتبت باللغة العربية سنة 1972 وقام صديقه بول بولز الكاتب الأميركي الذي كان بدوره يقيم في طنجة، بترجمتها إلى الانجليزية سنة 1973، ثم طرجمها إلى الفرنسية مواطنه الطاهر بنجلون سنة 1981 ولم تنشر باللغة العربية حتى سنة 1982، وقد تمت ترجمتها إلى 38 لغة في العالم ضمنها الألمانية. وتشكل عودة الحديث عن سيرة شكري وأعماله الابداعية، مناسبة لتكريمه من قبل أصدقائه ومؤسسات ثقافية ولكن يرافقها أيضا جدل حول أعماله وأسلوبه في تناول قضايا تعد من المحرمات في المجتمع المغربي.
شكري الغائب الحاضر..
بتأثر كبير، توقف عبد الله (67 عاما) صاحب مقهى، ليسترجع “في تصريح سابق للصحافة” شريط ذكرى لقائه بالشاب محمد شكري قائلا: “عرفته حين كان يتجول في حارة “السوق الداخلي” بالمدينة القديمة في طنجة عام 1967. كان شابا لا يملك شيئا، إلا ما عليه من ملابس بالية. كان فقيرًا جدًّا.. ولم يكن يملكُ حتى ثمن رغيف الخبز، ومبيته. مظاهر البؤس كانت بادية على ملامحه بشكل واضح“.يحكي عبد الله عن علاقته بالشحرور الأبيض، كما كان يُلقب شكري من قبل أصدقائه، “التقيتُ محمد شكري ولم تكن قد مضت على وصوله إلى طنجة سوى اياما قليلة، قادماً من الريف رفقة عائلته… لقد عرفت محمد شكري الإنسان قبل أن أعرف شكري الكاتب“.
يبتسم عبد الله “أتذكر جيدا ذاك المساء البارد قبل عشر سنوات.. حين ألقى الراحل محمد شكري التحية على زبناء مقهى “الرقاصة”، ثم أخد مقعده في صمت مطبق إلى الخلف.. وهو يمسك سيجارته بين شفتيه. طلب كوب شاي ساخن، وبدأ يتصفح مجلاته الأدبية التي حملها معه. كان على غير عادته. سألته عن حالته الصحية، فأجاب باقتضاب شديد: “بخير”. لم يكن مهتماً برحيله، ولا كان يعلم بأن أياما معدودات هي كل ما يفصله عن توديع هذا العالم”، كما يقول عبد الله الوهابي الرجل الستيني. يتوقف في حديثه عند رواية “الخبز الحافي”. ويتابع قائلا:”لقد كان إجماع من أصدقائه في حارة “السوق الداخلي” على رفض كل ما ورد في سيرته الذايتة “الخبز الحافي “.
هؤلاء يرفضون”الخبز الحافي“!
وسبق لعائلة الأديب أن قالت للصحافة “إننا نرفضُ رواية “الخبز الحافي” لما ورد فيها من مشاهد جنسية صادمة، وكذلك لتطرقها إلى علاقة الأب مع الأسرة التي كان يطبعها العنف”. وتشير إلى أنها لم تطلع على الرواية. لكنها سمعت عنها كثيراً، مؤكدة أن أختهم رحيمو اطلعت على تفاصيلها، مما جعلها تعبر عن رفضها الشديد لها في حياة محمد شكري، وحتى بعد مماته.
نفس الشيء أكده عبد الله في تصريحه للصحافة: “نحن كأصدقاء لمحمد شكري لم نصارحه يوما، بأننا جميعنا غضبنا مما ورد في روايته “الخبز الحافي”. لم نكن راضين عنها حقيقة، لكن نظرتنا للشحرور الأبيض لم تتغير”، يقول عبد الله الوهابي الذي كان منهمكاً في إعداد الشاي، وهو يبتسم “شكري مازال حاضرا في أمكنة وشخوص بعينها في السوق الداخل. لقد كان وسيظل كاتب طنجة“.
“في يوم ما، كنت أجالس شكري حين أطلعني على فصول بنسخة عربية من سيرته الذاتية الروائية، التي يؤرخ فيها لبعض من واحدة من أصعب مراحل حياته “لحظة التحاقه بالتعليم”، يقول الإعلامي عبد اللطيف بن يحيى في تصريح سابق للصحافة”، ويشير إلى المنع الذي ساهم بدوره في ترويج “الخبز الحافي”، مؤكدا أن ترجمتها إلى اللغة الفرنسية في منتصف سبعينات القرن الماضي، أثارت ضجة كبيرة في الأوساط الثقافية المغربية، ليقرر بعد ذلك الراحل محمد شكري أن يصدرها باللغة العربية، ليطالها منع أكبر لما تطرقت إليه من طابوهات اجتماعية“.ويضيف بن يحيى ان “موجة المنع هذه وصلت إلى دول عربية أخرى كمصر، التي أصدرت قرار منعها مباشرة بعد برمجتها بمقررات إحدى الجامعات المصرية“.
الناقد المغربي بوشعب الساوري بدوره مصرحا للصحافة في مناسبة سابقة، يرى بأن المنطق الذي قاد محمد شكري لكتابة “الخبز الحافي”، التي ترجمت إلى ثمانية وثلاثين لغة، هو تطرقها لطابوهات اجتماعية تدخل في إطار “المقدس”، وهو ما يفسر المنع الذي تعرضت له. وهذا ما كان له حسب بوشعيب الساوري آثارا إيجابية على رواية “الخبز الحافي”، التي لقيت رواجا كبيرا ومقروئية كبيرة في العالم العربي، كانت في الغالب بسبب المنع لكون قوته نابعة من قوة خلخلته المجتمع.
وفي المقابل، يرى الناقد بوشعيب بأن ما يجده القارئ في رواية “الخبز الحافي” نابع من تجربة شكري الأدبية والإنسانية المختلفة في سياقها الثقافي والاجتماعي عن الوقت الحاضر. فعلى الرغم من مساحة الحرية التي أصبح ينعم بها الإبداع في المغرب، إلا أنه ما تزال هناك حدود ترسم الإبداع.. وبالأخص فيما يتعلق بالجانب الأخلاقي والعقائدي والديني، والدليل على ذلك هو ردود الأفعال التي تثار بين الفينة والأخرى، حول بعض الأعمال السينمائية في السنوات الأخيرة.
شكري ينقلب على “الخبز الحافي”
ظل شكري يتحرك ويقرأ ويتحدث ويكتب ويتعارك حتى الأيام الأخيرة. فهو ليس بالشخص الذي يسلم للواقع بسلطة ما عليه، بل هو ضد كل سلطة سواء في الكتابة أو في الحياة. وهذا ما يفسر، جزئيا، مغامرته الأدبية المستمرة والمتجددة، و«انقلابه» على نصه الأول «الخبز الحافي» الذي صرح حوله خلال ندوة تكريمه بمهرجان أصيلة: «لقد تحول هذا النص الأول إلى حاجز يمنع من رؤية بقية أعمالي، إلى حاجز يزعجني وأرغب في التحرر منه.. «الخبز الحافي» يسحقني وأحاول قتله بكتب أحسن منه» .
فرادة شكري..
واقعة اقلاب شكري عل. كتابه “العالمي” الخبز احافي، تؤكد مرة أخرى سر الخلطة السحرية التي تشكل فرادة شكري، هذه الخلطة التي يمزج صاحبها الإبداع بالجنون، ورغبة التجويد بالثورة على السائد، وتزايد الشهرة بعدم الرضى عن الذات، وتكريس الاسم بالرغبة في تجاوز سقف كتابته وشخصه باستمرار مرهق قاد كاتبنا إلى حافة الانهيار العصبي أحيانا ومحاولة الانتحار أحيانا أخرى، قبل أن يوجه عنفه الانشطاري إلى داخل الكتابة نفسها، والى مجهود التجاوز المستمر للذات والآخرين بواسطة آليات متعددة تعتبر كلها تجليا لطاقته الصاروخية المضطرمة المتوثبة العنيفة التي أنهكت جسده وذهنه، وشغلت نقاده وقراءه، وشكلت مصدر خصوصيته. هذه الطاقة المتفجرة التي يمكن أن نطلق عليها اسم العبقرية، مع مراعاة كل مل تتضمنه هذه الكلمة من معان وأبعاد اشتقاقية ونفسية وروحية وعملية مرتبطة ببذل الجهد وطول النفس.