كخلية نحل لا تنفك عن العمل، بين المطبخ وموائد الزبائن، ينشغل عشرة شبان وشابات من ذوي الإعاقة الذهنية داخل مطعم “هدف”، في العاصمة المغربية الرباط.المطعم المنشأ من طرف جمعية آباء وأصدقاء الأشخاص المعاقين ذهنيا “هدف” (غير حكومية)، يمثل مبادرة أولى من نوعها في المغرب، في محاولة لدمج تلك الفئة من ذوي الاحتياجات الخاصة اجتماعيا ومهنيا.بابتسامة بريئة وعينين مترقبتين، يراقب كل من “عمرو” و”توفيق” زبائن المطعم الهادئ، إذ لا ينفك الشابان يمشطان المكان ذهابا وإيابا.وفيما يقفان على أهبة الاستعداد لتسجيل طلبات الزبائن وتلبيتها، وترتيب الطاولات، ينشغل زملاؤهما ـ على مستوى المطبخ ـ في إعداد الأطباق تحت إدارة “الشيف كريمة”.
لمسة إبداع خاصة
كل شيء في المطعم الصغير ذي الطاولات البيضاء المتراصة بانتظام، من إبداع شباب المركز الاجتماعي المهني “هدف” التابع للجمعية. تقول مديرة المطعم عيشة القاسمي للأناضول، إن “الزينة المستخدمة داخل المطعم وبعض من أدواته، تجسيد عملي لإبداع شباب الجمعية في مختلف الورشات”.ذلك أن هؤلاء الشباب عكفوا على إنجاز أشغال يدوية خاصة بالمطعم، على مستوى الورشات داخل المركز الذي يعنى بتعليمهم فنون الخياطة والرسم على الزجاج، فضلا عن الطبخ.
كوة أمل
يبدأ يوم مسؤولة المطعم بتقديم شرح حول مختلف الأطباق المزمع تقديمها للشباب الموكل إليهم الخدمة، ترافقها جملة من التوصيات تتعلق بطريقة التقديم والابتسامة والإعراب عن أمنيات صادقة بشهية طيبة للزبائن.ولعل استعدادات الشباب الأربعة تبدأ قبل لقائهم الصباحي، إذ يحرصون على الظهور بمظهر أنيق ونظيف مرتدين زيا موحدا، مكونا من سروال أسود وقميص أبيض كالذي يرتديه الشاب “عمرو لعروسي”.بكلمات متكسرة خجولة، يقول نادل المطعم صاحب الـ 28 عاما للأناضول، إن تجربته أكسبته سعادة كبيرة، خاصة مع مغادرة الزبائن وعلامات الرضا بادية عليهم.”عمرو” الذي قضى 10 سنوات في مقر المركز متعلما ومتدربا ومستخدما، يرحب بزوار المطعم ويسجل طلباتهم ثم يبلغ زملاءه داخل المطبخ، ثم يقدم وجبة مقبلات وطبقا رئيسيا وتحلية.وقبل أن ينصرف يتمنى للزبائن “الصحة والعافية”.
تذليل الصعاب
“المطعم التضامني” كما يصفه القائمون عليه، اتخذوا له شعارا ترويجيا يقول “لا يقتصر الأمر على كونه مطعما فقط، إنه مكان لتشارك التجارب وتبادلها”.ويعمل المطعم الذي انطلق قبل ستة أشهر ثلاثة أيام في الأسبوع بصفة مؤقتة، مقتصرة على الثلاثاء والخميس والجمعة.وتقول القاسمي بهذا الخصوص، “لا نريد الضغط على هؤلاء الشباب، ونفضل التعامل معهم بمبدأ التدرج لدمجهم بسلاسة في وسط مهني له متطلباته وضغطه”.مسؤولة المطعم ومديرته، أضافت ببريق ثقة يلف نظراتها، أن المطعم سيعمل مستقبلا على استقبال زواره خمسة أو ستة أيام بالأسبوع.”لم لا وهؤلاء الشباب رغم إعاقتهم الذهنية يحدوهم أمل كبير في العمل وإبراز جهودهم وكفاءتهم إلى الملأ”، تضيف القاسمي.ورغم أن الشبان والشابات الـ 10 الذين يعملون في المشروع متدربين، يعانون إعاقة ذهنية خفيفة، إلا أن بلوغهم هذا المستوى لم يكن بالمهمة اليسيرة، وفق ما تقول الشيف كريمة الرحماني، المسؤولة داخل مطبخ المطعم.وترى الرحماني في حديثها للأناضول، أن هذه المهنة صعبة وتتطلب تركيزا ومعرفة بمختلف مراحل الطبخ.ولفتت الشيف إلى أن “صبر المدربين ورغبة الشباب المتدربين، ألانا الصعاب ليتمكن مشروع المطعم من الخروج للعلن والسير بخطوات ثابتة نحو إرضاء مرتاديه”.هذا الرضا الذي ينشده القائمون على المطعم والمتدربون العاملون به، كان واضحا على محيّا زبونة فرنسية الجنسية، أبدت إعجابها بمظهر الأطباق وأثنت على مذاقها ولذتها.وأعربت آني لازغاك إحدى زبونات المطعم، خلال حديثها للأناضول، عن تأثرها بالاستقبال الحار الذي خُصت به من طرف هؤلاء الشباب.وتابعت “المكان وديع وجميل والأكل لذيذ. هؤلاء الشباب هم أطفالنا وأرى أنهم يشتغلون بمهنية عالية”.
نظرة نمطية
ويهدف المشروع الذي أسهمت في تمويله المبادرة الوطنية للتنمية البشرية (برنامج حكومي يدعم المشاريع الاجتماعية)، إلى استقلال هؤلاء الشباب ذاتيا وتحسين الرأي العام حول قدراتهم، وإعدادهم للولوج إلى سوق الشغل.إلا أن هذا المسعى الذي يعمل المركز لتحقيقه، يصطدم بنظرة المجتمع كله وأصحاب المقاولات والمطاعم بصفة خاصة، ممن يتخوفون ويرفضون تشغيل هذه الفئة.وتقول أمينة لمسفر، رئيسة الجمعية ومؤسستها للأناضول، إن عددا كبيرا من الشباب المعاقين ذهنيا الذين تخرجوا في المركز لم يتمكنوا من ولوج سوق العمل، كما لم يحظوا بفرص تلائم قدراتهم وكفاءتهم.
أسر فخورة
وأفادت الرئيسة المؤسِسة بكلمات فخورة “ننبهر بشبابنا كلما لمسنا طاقتهم على العمل في مختلف الورشات. إنه فخر للعائلات والشباب الذين نجحوا في إنجاز عمل”.ورغم استفادة مجموعة من أبناء المركز، من تكوين (تدريب) ثان على مستوى “المركز الوطني محمد السادس للأشخاص في وضعية إعاقة بمدينة سلا ، ينتهي بحصولهم على شهادات معترف بها، إلا أن فرص شغل حقيقية تبقى مسعى بعيد المنال.ويتوجه الشبان والشابات صوب مخابز ومطاعم ومحلات خياطة، لقضاء فترات تدريبية تطول أو تقصر مدتها، قبل العودة من جديد صوب المركز في انتظار فرصة عمل.ويجد هؤلاء الشباب أمامهم إنشاء مشاريع صغرى خاصة بهم داخل بيوتهم في مجالات منها الخياطة والرسم على الزجاج وإعداد طلبيات حلويات ومملحات وغيرها.
حقوق مهضومة
ورغم أن دستور المغرب يؤكد ضمن فصله الـ 34 ضرورة “إعادة تأهيل الأشخاص الذين يعانون من إعاقة جسدية أو حسية حركية أو عقلية، وإدماجهم في الحياة الاجتماعية والمدنية، وتيسير تمتعهم بالحقوق والحريات المعترف بها للجميع”، إلا أن تفعيل مقتضياته يبقى نادرا.فحسب تقرير للمندوبية السامية للتخطيط، (هيئة حكومية مكلفة بالإحصاء والدراسات)، فإن 66.5 بالمائة من الأشخاص المعاقين في المغرب البالغ عددهم مليونا و703 آلاف و424 شخصا، لا يملكون أي مستوى تعليمي، في مقابل 35.5 بالمائة لدى غير المعاقين.فيما كشف بحث قدمت نتائجه وزارة التضامن والمرأة والأسرة والتنمية الاجتماعية، أن معدل بطالة الأشخاص في وضعية إعاقة خفيفة إلى عميقة جدا يقدر بـ 47.65 بالمائة.ذات البيانات سجلت معدل بطالة في صفوف الأشخاص في وضعية إعاقة من متوسطة إلى عميقة جدا وصل إلى 67.75 بالمائة.أرقام مرتفعة لا يكسرها إلا الوعي بمسؤولية المجتمع تجاه هذه الفئة، وتقبل وضعيتهم ومنحهم فرصا أكبر لفهمهم واحتضانهم، تقول أمينة لمسفر الرئيسة المؤسسة لمركز “هدف”.”لمسفر” وهي أم لفتاة معاقة وكفيفة، قالت للأناضول إنها برفقة الأسر وشركاء المركز وداعميه نجحوا في مهمتهم وحققوا الكثير من أهدافهم المسطرة.وإن كان هذا النجاح غير كاف بالنسبة إليها، فإنها تتطلع بتفاؤل صوب تلك النظرة الجديدة للمجتمع تجاه فئة بحاجة إلى الصبر والاهتمام والاحترام.