لم يكن أكثر المتشائمين بين أنصار عبد الإله بنكيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، يتصورون خروج الرجل بهذه الطريقة من قيادة الحزب. فبعدما ساهم الرجل في اشتعال مصباح الحزب خلال الانتخابات الجماعية والتشريعية، هاهو اليوم يواجه قدره وبطريقة استعملت فيها كل وسائل المواجهة..”لقد انتصرنا على الاستبداد”، هكذا قال أحد المعارضين.
إنه جوكير الإسلاميين المؤسساتيين. زعيم قاد حزبه نحو تصدر المشهد السياسي، في عز أزمة الربيع المغربي، ليتوج العدالة والتنمية فيما بعد، رغم كل القرارات اللاشعبية التي اتخذها بنكيران وهو رئيس للحكومة، كأكبر حزب فائزة في الانتخابات الجماعية. هنا فهم الجميع أن للرجل ملكة تواصلية لا تتوفر في غيره من قيادات الحزب، فقد نجح بـ”شعبويته” البراغماتية في استقطاب عشرات الآلاف من أصوات المغاربة.
لقد نجح بنكيران في تحويل سيف قراراته القاسية إلى أداة لمواجهة خصومه. رفع من سن التقاعد، لكنه لم يجد حرجا في الخروج إلى المغاربة ليخاطبهم بصريح العبارة: إما الإصلاح أو الإفلاس. وعندما رفع أسعار المواد البترولية بدرهمين، طل علينا من قنوات الإعلام العمومي وهو يخاطب بسطاء القوم عن الفئات التي تستعمل السيارات، في مقابل آلاف المغاربة الذين يؤدون عنها ثمن البنزيل والغازوال.
لقد نجح بنكيران في ما فشل فيه خصومه. فكيف لرجل قاد الأغلبية، وأشرف على تنزيل كل هذه القرارات، أن يحقق الانتصار تلو الانتصار في مشهد انتخابي وصلت حدة الصراع فيها مستويات لا تليق بالفعل الديمقراطي. سيتذكر الجميع كيف اتهم حميد شباط، الأمين العام للاستقلال، عبد الإله بنكيران بالانتماء لداعش والموساد والنصرة. وسيتذكر الجميع كيف واجهت آلة “البام” بقوة هذا الرجل في عز الصراع الانتخابي..لكنه نجح مع ذلك في إيصال حزبه إلى المرتبة الأولى للمرة الثانية على التوالي.
لكن كل ذلك لم يشفع لزعيم “المصباح” في إقناع حزبه بالاستمرار كأمين العام للولاية الثانية، وهو الذي خرج منهزما من معركة التحالف الحكومي، ليسلم المشعل لزميله سعد الدين العثماني، الذي غادر منصب وزير الخارجية مكرها بضغط من بنكيران. في محطة الإعفاء من رئاسة الحكومة بدأت الحكاية..حكاية إزاحة الرجل الأول في “البيجيدي” عن المشهد السياسي.
كل المؤشرات كانت تؤكد أن الرجل يواجه حملة شرسة من قيادات الحزب. فقد عمدت أبرز الوجوه داخل الحزب الإسلامي إلى إعلان رفضها القاطع لعودة بنكيران. “الولاية الثالثة ليست مصلحة الحزب”، قالها مصطفى الرميد وهو يحاول الضغط ليقطع الطريق على بنكيران. أما عزيز رباح فكان موقفه واضحا منذ البداية، فيما اختار مصطفى الخلفي إعلان دعمه لبنكيران في وقت متأخر.
كان الامتحان عسيرا داخل المجلس الوطني. مرت ليلة السبت-الأحد عصيبة على أبرز القيادات. اتصالات مكثفة مع أعضاء برلمان الحزب، ومحاولات لطي صفحة الرجل بشكل نهائي. وفي صباح اليوم الموالي، اتخذ القرار..إنه قرار إعلان الوفاة السياسية لبنكيران، رغم إعلان قبوله لنتائج التصويت. أما أنصار فلم يجدوا من شيء يخفف عنهم قسوة اللحظة غير الإشادة بدور الرجل في هذه المرحلة من تاريخ المغرب الحديث.
“انتهت مهمتي على رأس الأمانة العامة”. هكذا قال بنكيران، وهو يعلن عن انهيار آخر قلاع “الشعبوية” البراغماتية، التي مكنت حزبه من حصد الأخضر واليابس، في انتظار أن تأتي رياح عاصفة التغيير على مقر العرعار لتنهي بذلك زعامات حزبية حولت المشهد السياسي المغرب إلى ساحة لمواجهات أساءت كثيرا للفعل الديمقراطي، وعمقت الهوة بين المواطن والمشهد الحزبي في البلاد.