موسى المالكي
تدخل العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا يومها الخامس عشر، وسط مساعي دولية لإيجاد تسوية قريبة للأزمة، تجنب العالم مخاطر توسع الحرب وخروجها عن سيطرة وحدود الدولتين المعنيتين، ناهيك عن آثارها على الاقتصاد العالمي.
وتقدم الجغرافيا العسكرية، أرضية لدراسة دور العوامل الجغرافية الطبيعية والبشرية في التأثير على سير وتوجيه العمليات العسكرية، وذلك بعدما أثبتت دراسة المعارك والحروب عبر التاريخ، أهمية استحضار البعد الجغرافي الذي لعب ولا زال يلعب دورا مركزيا في حسم الكثير من نتائجها.
وتكشف خريطة المعارك العسكرية، تركيز القوات الروسية المهاجمة، على السيطرة على القسم الشرقي والجنوب الأوكراني، من خلال فتح ثلاث جبهات، من الجنوب والشرق والشمال، وإهمال القسم الغربي من البلاد لحد الآن رغم المخاطر المحتملة لهذا الإهمال على الوجود الروسي.
وزيادة على تعدد العوامل التاريخية والحسابات السياسية والأمنية، والأهداف التي رسمتها روسيا الإتحادية، لما تسميه بعمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، إلا أن الجغرافيا العسكرية، تساهم بدورها في تفسير وتحليل خريطة المعارك العسكرية، واستخلاص دروس الحرب.
الجيش الروسي بين مزايا سهولة التضاريس الأوكرانية وتعقيدات الموقع الجغرافي
تمتد أوكرانيا على مساحة تناهز 604 ألف كلم مربع، تجعل منها ثاني أكبر بلد أوروبي يقع بالكامل داخل “القارة العجوز”، فيما تقارب ساكنة البلاد 44 مليون نسمة. وهي تشترك بذلك في حدودها الشرقية مع العملاق الروسي “الدولة القارة” التي تتجاوز مساحتها 17 مليون كلم مربع، وبساكنة تفوق 143 مليون نسمة. (موسوعة بريطانيكا، 2021)
ولطالما تمتعت الدولة الروسية في محطات تاريخية مختلفة (الإمبراطورية الروسية، اتحاد الجمهوريات السوفيتية الاشتراكية، الإتحاد الروسي)، بمزايا العمق الإستراتيجي الكبير، وهو العامل الذي حطم طموحات خصومها أو الحالمين بغزو أراضيها (أمثلة: الحروب الروسية العثمانية، الغزو الفرنسي بقيادة نابوليون بونابارت، الغزو النازي بقيادة هتلر).
وفي حالة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، فقد سهل الجوار الجغرافي والحدود البرية المشتركة بين البلدين، من عمليات تعبئة وتحريك القوات المتقدمة ودعمها الناري وتزويدها بالمؤن والاحتياجات اللوجستية الضرورية، خاصة ضمن الجبهتين الشرقية والجنوبية.
ويساند انبساط التضاريس والسهول الخصبة الممتدة تقدم الجيش الروسي، وعلى توسيع استخدامه لسلاح الدبابات والمدرعات وراجمات الصواريخ والمدفعية التي تجد سهولة كبيرة في الحركة.
وقد تشكل بعض العقبات الجغرافية، إزعاجا للجيش الروسي مثل الحاجز المائي الذي يمثله نهر “الدنيبرو”، والذي يقسم أوكرانيا إلى قسمين شرقي وغربي، وتقع عليه العديد من المدن الأوكرانية بما في ذلك العاصمة كييف.
ونظرا لمستوى الرطوبة العالية، بما في ذلك التساقطات الثلجية، وظاهرة ذوبان الثلوج التي تضاعف عدد البرك المائية، وتسبب في تشبع التربة بالماء، سيعرقل مرور المدرعات الثقيلة من بعض الممرات، وقد يتسبب في غرقها في الأوحال “ظاهرة راسبوتيستا”، وهي من بين ما تعول عليه أوكرانيا.
ويشكل امتداد الغابات غطاء طبيعي يمكن للقوات الخاصة الأوكرانية استغلالها لنصب الكمائن البرية واستهداف الطيران الروسي المنخفض. وأخيرا جدير بالإشارة توفر أوكرانيا على شريط ضيق من جبال الكاربات في أقصى حدود الجنوبية الغربية.
في المقابل، فإن الموقع الجغرافي الأوكراني على تخوم الحدود المشتركة مع الدول الأعضاء في الناتو (بولندا وسلوفاكيا وهنغاريا -المجر- في الغرب ورومانيا في الجنوب الغربي)، سبب تعقيدات هائلة للعملية العسكرية الروسية، كونه يسمح بإمكانية تدفق الأسلحة والعتاد والرجال “فيلق المتطوعين”، والمساندة التقنية والإستخباراتية والإنسانية، بالإضافة لإمكانية تمويل حرب استنزاف طويلة الأمد ودعم المقاومة الأوكرانية، بينما تلتزم مولدوفا الحياد في هذا الصراع.
وقد حاولت روسيا الاستفادة من رواسب التاريخ المشترك للبلدين، بهدف استمالة وتوظيف الحضور الإثني واللغوي والثقافي الروسي، في تركيز هجومها على الشرق الأوكراني، معولة بذلك على دعم الأهالي لعملياتها العسكرية أو على الأقل عدم مقاومتها، إلا أن استثمار هذا المعطى على الأرض لم يعطي نتائج مشجعة في مختلف الجبهات.
الجبهات العسكرية الروسية تركز على الشرق والجنوب الأوكراني وتهمل غرب البلاد
يفوق قوام الجيش الروسي 850 ألف رجل، دون احتساب قوات الاحتياط (250 ألف عنصر)، والقوات شبه العسكرية (250 ألف عنصر). وتمتلك ثاني قوة عسكرية في العالم، 4073 طائرة، و12420 دبابة، و30 ألف عربة مدرعة، و605 قطعة بحرية، فيما تفوق ميزانيتها السنوية 154 مليار دولار. (معطيات الموقع الرسمي جلوبال فاير باور لسنة 2022)
وجدير بالذكر، أن التدخل الروسي في أوكرانيا يعود لعدة سنوات، وانطلق مع السيطرة على جزيرة القرم الأوكرانية، التي تبلغ مساحتها 27 ألف كيلومتر مربع، بغالبية سكانية روسية الأصول، وقد ضمتها روسيا بموجب استفتاء 16 مارس 2014.
كما يحظى الانفصاليون في إقليم الدونباس في الجنوب الشرقي لأوكرانيا (جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتنين)، بالدعم السياسي والإقتصادي والعسكري الروسي منذ إعلان تمردهما المسلح على حكومة كييف سنة 2014.
وتحت غطاء سلسلة مناورات عسكرية بحرية وبرية وجوية، أفادت تقارير استخباراتية أمريكية عممت على وسائل الإعلام الدولية، بقيام الجيش الروسي بحشد 120 كتيبة تكتيكية في وضعيات هجومية، تضم 130 ألف جندي روسي، وبإضافة أعداد الانفصاليين يصل قوام القوات المهاجمة إلى نحو 190 ألف رجل.
وفجر يوم الخميس 24 فبراير 2022، اتخذت القوات الروسية من جزيرة القرم التي تضم مقر أسطول البحر الأسود الروسي في سيفاستوبول، قاعدة انطلاق هجومها في الجبهة العسكرية الجنوبية.
واستهدف فتح هذه الجبهة السيطرة على جميع المنافذ البحرية الأوكرانية، عبر محور شرقي لمحاصرة وإخضاع المدن والمراكز القريبة أو المطلة على بحر آزوف (ميليتوبول، بيرديانسك وماريوبول).
وهدف المحور الغربي، للسيطرة على المدن والبلدات الأوكرانية المطلة على البحر الأسود (خيرسون، ميكولايف، أوديسا)، بالإضافة للسيطرة على جزيرة الثعبان الإستراتيجية. فيما اتجه المحور الثالث شمالا نحو كل من إنيرهودار وزابوريزهزيا على نهر الدنيبر.
وبالانتقال للجبهة العسكرية الشرقية، اخترقت القوات الروسية الحدود الأوكرانية الجنوبية الشرقية، بهدف دعم تقدم إنفصاليي “جمهوريتي لوغانسك ودونيتسك” للسيطرة على كامل إقليم الدونباس واختراق الدفاعات والتحصينات الأوكرانية على طول الخط الدفاعي.
وخصص المحور الثاني، لمهاجمة ثاني أكبر المدن الأوكرانية (خاركيف)، التي تقع على بعد 20 كلم فقط عن الحدود الروسية، وأيضا لمهاجة إقليم سومي.
وفي الجبهة الشمالية، اختارت القوات الروسية المهاجمة، الانطلاق من أراضي حليفتها بيلاروسيا للزحف على العاصمة الأوكرانية، بالموازاة مع الضفة اليمنى لنهر الدنيبر، مرورا عبر محطة تشيرنوبل النووية، وتطويق مدينة كييف ذات الثلاثة ملايين نسمة من الشمال الغربي (إيفانكييف)، ومن الغرب (ماركييف) ومن الجنوب الغربي (فاسيليكيف) ومن الشمال الشرقي (مطار تشيرنيهيف).
وحسب أحدث حصيلة قدمتها وزارة الدفاع الروسية منذ بدء العمليات العسكرية، فإن 90% من المطارات العسكرية الأوكرانية أخرجت عن الخدمة، كما دمرت 97 طائرة عسكرية أوكرانية، و107 مسيرة، و986 دبابة وآلية مدرعة، و2911 من منشآت البنية التحتية العسكرية (مراكز القيادة والاتصال، منظومات الدفاع الجوي، محطات الرادار وغيرها).
وتقدر روسيا الخسائر البشرية العسكرية الأوكرانية، بما يزيد عن 7000 جندي بين قتيل وجريح وأسير. ويضاف لذلك، ما يزيد عن 1,5 مليون نازح، دون احتساب الخسائر البشرية المدنية.
الجيش الأوكراني يجر نظيره الروسي لخوض حرب المدن ويستعين بفيلق المتطوعين
يبلغ تعداد القوات الأوكرانية حسب معطيات موقع جلوبال فاير باور لسنة 2022، ما مجموعه 200 ألف جندي، بالإضافة إلى 250 ألف مقاتل من جيش الإحتياط، و50 ألف من القوات شبه العسكرية، توضع رهن إشارتهم 318 طائرة حربية، و2596 دبابة و12303 عربة مصفحة، بميزانية سنوية تصل إلى قرابة 12 مليار دولار، محتلا بذلك الرتبة 22 بين أقوى جيوش العالم.
ووعيا منه، بضعف قدرته على خوض حرب تقليدية ضد نظيره الروسي، فقد اعتمد الجيش الأوكراني على جر القوات المهاجمة إلى خوض حرب المدن والشوارع، وهو نمط قتالي مكلف من حيث الخسائر البشرية والمادية للمهاجم.
وعملت القوات الأوكرانية، على استخدام الطائرات المسيرة “بيرقدار التركية”، في مهاجمة الأرتال البرية المتقدمة، وتوظيف مضادات الدروع والطائرات، وسلاح القناصين (مقتل جنرالين روسيين على يد قناصين أوكران).
تبعا لذلك، تقدر هيئة الأركان الأوكرانية خسائر الجيش الروسي بنحو 12 ألفا جندي منذ بدء الحرب، بالإضافة إلى تدمير نحو 335 دبابة، و1105 عربة قتالية، و208 من الأنظمة المدفعية والجوية.
وتعول كييف أيضا، على الدعم العسكري الغربي المتواصل، خاصة لمساعدتها في الدفاع الجوي ومضادات الدروع، بينما شرعت في استقبال آلاف العناصر ضمن فيلق المتطوعين من مختلف البلدان الغربية، ناهيك عن الإستعانة بالمساجين من ذوي الخبرة القتالية.
ومن جهتها، شنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ودول الإتحاد الأوروبي، حربا اقتصادية مفتوحة على الاقتصاد الروسي، عبر عزله عن نظام “سويفت” الدولي، وحظر مجالها الجوي عن الطيران الروسي، وتجميد أرصدة مالية لقادة وأثرياء ومستثمرين روس، ووقف العديد من الشركات والاستثمارات في روسيا.
الانعكاسات والعواقب الدولية للحرب الروسية الأوكرانية
تسبب اندلاع المعارك العسكرية، في ارتفاع قياسي لأسعار المنتجات الطاقية خاصة النفط والغاز الطبيعي، نظرا لكون روسيا من أوائل المنتجين والمصدرين في العالم، وستكون أوروبا واقتصادها أو المتضررين من هذه المستجدات، وبطبيعة الحال معظم البلدان غير المنتجة.
وفي المقابل، ارتفعت أسعار المواد الغذائية، وخاصة منها الحبوب، نظرا لكون السوق الروسية والأوكرانية تحتل طليعة المنتجين والمصدرين للسوق الدولية، وفي طليعتها البلدان العربية، ومن بينها المغرب.
كما أعاد تصاعد الأحداث، بروز الإصطفافات الدولية بين المعسكر الروسي الصيني الإيراني بمعية كوريا الشمالية وبعض بلدان أمريكا اللاتينية (إصدار لائحة الدول غير الصديقة لروسيا)، ويقابله المعسكر الغربي الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا والإتحاد الأوروبي واليابان.
وسيدفع هذا الوضع، إلى بحث الدول الغربية عن تنويع مصادر تزودها الطاقي، من أسواق جديدة بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كي لا تبقى رهينة الغاز والنفط الروسي. ولعل دعم مشروع خط الغاز النجيري المغربي الإستراتيجي مرورا عبر دول شمال غرب إفريقيا، سينوع مصادر تزويد السوق الدولية.
وتؤكد هذه الأحداث من جديد، على أهمية تأمين الدول لاحتياطات استراتيجية من المواد الغذائية والطاقية وتطوير قدراتها التخزينية لتمتد على عدة سنوات عوض بضعة أشهر، بالإضافة إلى ضرورة التطوير المستمر لقدراتها الدفاعية ضد مختلف أنواع المخاطر.
ونختم بالقول، أن المساعي والتسويات السلمية للنزاعات، تبقى السبيل الأنسب لازدهار وصالح الشعوب، ومواجهتها للتحديات الأساسية التي تفرضها التغيرات المناخية، والمخاطر البيئية المتعددة، ومعلوم بأن السلم والتعايش ضروريان في كل زمان ومكان لانتعاش الاقتصاد ونماء الأمم.
أستاذ باحث في الجغرافيا السياسية والقضايا الجيواستراتيجية