تحل اليوم اليوم الخميس التاسع من ربيع الثاني، ذكرى مؤثرة وحزينة على كافة مواطني المملكة المغربية،إذ يستحضر الشعب المغربي، في أجواء من التضرع والخشوع، الذكرى التاسعة عشرة لرحيل موحد البلاد ومؤسس نهضتها الحديثة جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني، طيب الله ثراه، وهي مناسبة لاستحضار المسار المتفرد لملك همام طبع بحنكته وشجاعته وبعد نظره الساحة الوطنية والإقليمية والدولية، تاركا بصماته جلية على التحولات الكبرى التي عرفتها المملكة خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
يوم التاسع من ربيع الثاني 1420، يوم يستحضره المغاربة ومشاعر الحزن والألم تختلج في صدورهم، كيف لا وقد ودعوا قائدا عظيما وزعيما فذا عاشوا تحت رايته لمدة 38 سنة، بذل خلالها مجهودات جبارة جعلت من بلده وشعبه منارة بين الدول والأمم، حيث سخر في ذلك الحنكة التي وهبه الله إياها وما تحلى به من بعد نظر.
وما مراسم التشييع المهيبة وغير المسبوقة لجلالة المغفور له إلا ترجمة للعروة الوثقى التي كانت تربط الشعب المغربي بالملك الراحل، حيث خرج أزيد من مليوني مغربي إلى شوارع العاصمة التي استقبلت حشودا من مدن أخرى، كثير منها حل راجلا من مدن مجاورة لوداع عاهلهم الراحل وتجديد تأكيد وفائهم الدائم لذكراه وعهدهم على مواصلة الطريق الذي بدأه مع وارث سره من أجل صالح الأمة المغربية والسلم والوفاق الدوليين.وكان المغفور الله على الصعيد الوطني، بانيا ومشيدا، وعلى المستوى الدولي، مدافعا قويا وداعيا إلى السلام، مما جعل صيته يمتد عبر المعمور مثبتا نجاعته في تجاوز أعقد الأزمات وأدق الفترات التي عرفها العالم في القرن الماضي.
موحد الوطن وباني النهضة الحديثة
لقد تمكن المغرب، بفضل السياسة الحكيمة التي كان ينهجها جلالة المغفور له الحسن الثاني وعبقريته، من استكمال الوحدة الترابية للمملكة وتثبيت ركائز دولة المؤسسات والحق والقانون، مما بوأ المغرب مكانة متميزة على الساحة الدولية بل وساهم في إرساء السلم والأمن عبر بقاع شتى من العالم، لاسيما وأن الملك الراحل كان على الدوام مصدرا للاستشارة لا محيد عنه من لدن العديد من زعماء وقادة الدول.
وبالفعل، فقد طبع الملك الراحل التاريخ الحديث للمغرب من خلال ما حققه من تنمية اقتصادية واجتماعية للمملكة عكستها الإصلاحات العميقة التي باشرها والأوراش الكبرى التي أطلقها، حتى صار المغرب مضرب المثل كبلد عصري وصاعد استطاع أن يوفق بين حضارته العريقة وتطلعه إلى الحداثة، فكرا وممارسة.وهكذا، قام جلالة المغفور له الحسن الثاني، بإرساء مؤسسات ديمقراطية وتعزيز الحريات العامة وترسيخ حقوق الإنسان وتشجيع الإبداع على المستويات الثقافية والمعمارية والفنية. والحقيقة أن الملك الراحل لم يكن وراء وضع سياسة تنموية ترتكز على مؤسسات قوية وعصرية وصانع السلم الاجتماعي بالمغرب بدون منازع فحسب، بل كان أيضا القائد المحنك الذي استطاع أن يقود بنجاح الأمة في كفاحها السلمي لاستكمال وحدتها الترابية من خلال مسيرة خضراء سلمية أشاد الجميع بعبقرية مبدعها.
وقد تمكنت هذه المسيرة من تحقيق أهدافها في زمن قياسي بفضل التعبئة العامة للشعب المغربي الذي استجاب بعفوية وإقبال كبير إلى “نداء الملك الحسن”، مبرهنا للعالم أجمع على أنه جدير بملك فذ من طينة الحسن الثاني الذي قفز بالمملكة قفزة نوعية على درب الديمقراطية والتنمية الاقتصادية بوأتها مكانة متميزة في محيطها الجغرافي وعلى المستويين الإقليمي والعالمي.
منعش السلام العالمي
أما على الصعيد الدولي، فقد عرف عن الملك الراحل دفاعه المستميت عن الحوار كسبيل ناجع لتحقيق السلم والأمن في مختلف ربوع العالم، وهو ما تجلى، بشكل خاص، في النزاع العربي الإسرائيلي، حيث انخرط في تسوية ملفات هذا النزاع بكل ثقله، وكان بذلك من بين الزعماء القلائل الذين تمكنوا من لعب دور هام في دعم القضية الفلسطينية وإنعاش فرص السلام في الشرق الأوسط، فضلا عن التقريب بين الشعوب والحضارات الكبرى والديانات.ومن تجليات دعم جلالة المغفور له الملك الحسن الثاني للقضية الفلسطينية، سهره على عقد القمة العربية بالرباط سنة 1974، والتي اعترفت لأول مرة في التاريخ بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل وحيد وشرعي للشعب الفلسطيني.
رائد الوحدة المغاربية
وإيمانا منه بما يجمع شعوب المغرب العربي من أواصر متينة قوامها الاشتراك في التاريخ والدين واللغة، واستجابة لما لهذه الشعوب من تطلعات عميقة، كان لجلالة المغفور له الحسن الثاني الأثر البالغ في قيام الاتحاد المغاربي باعتباره خيارا استراتيجيا لا محيد عنه، من أجل تمتين أواصر الأخوة التي تربط الدول الأعضاء وشعوبها وتحقيق تقدم ورفاهية مجتمعاتها والدفاع عن حقوقها والمساهمة في صيانة السلام القائم على العدل والإنصاف واحترام سيادة الدول ووحدتها الترابية.
خير خلف لخير سلف
والواقع أن المغاربة، وهم يخلدون اليوم الذكرى التاسعة عشرة لرحيل هذا الملك العظيم، ليفخرون أيما فخر، وهم يشاهدون ويتابعون جهود وارث سره صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله، وهو يواصل، ليل نهار، العمل الدؤوب من أجل وضع المغرب على سكة القرن الواحد والعشرين، مع ما يتطلبه ذلك من عصرنة وتحديث، عنوانهما تلك الأوراش الكبرى التي أطلقها جلالته في كل أرجاء المملكة وفي ظرف وجيز، وهمت كل الميادين وجميع الشرائح بدون استثناء، مع التركيز على الفئات التي تعاني من الحرمان والهشاشة.