كيمية العياشي
“من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خاوية”
من أقوال الإمام الغزالي
لاشك أن الهداية والتقوى،واتباع سبيل الصالحين من فضل الله تعالى ومشيئته،قال تعالى:{إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء}،لكن هناك أسباب تؤثر في عقيدة المؤمن وأخلاقه، وتقف حائلا بينه وبين بلوغ تلك الدرجة الإيمانية التي تصبو إليها كل نفس طيبة،بل قد تكون لها “تداعيات على البنية المعرفية” للمسلم،فتنقله من الإيمان إلى الكفر،وتدفعه إلى سلوك مالا يرضاه الله ورسوله.
إن من أخطر ما يهدد عقيدة المؤمن ونبل أخلاقه الفقر والحاجة،فهو الآفة الاجتماعية التي تضعف الضمير وتكبل العقل وتذل النفس،وقد قيل”صوت المعدة أقوى من صوت الضمير”،فكم من مسلم تقي فقد، بسبب فقره ومايراه من حوله من بذخ وترف،توازنه الفكري وبات مشككا في العدالة الإلهيه،وانحطت أخلاقه وقيمه الإسلامية،وقد روي عن الصحابي الجليل، أبي ذر الغفاري، قوله:(إذا ذهب الفقر إلى بلد قال له الكفر: خذني معك).
فكيف السبيل إلى اكتساب المؤمن مناعة ضد آثار الفقر الفكرية والعقدية والأخلاقية؟
هناك سبيلان لا ثالث لهما لمحاربة الفقر وتحصين المؤمن من آثاره السلبية
الأول:سياسي
على الدولة تحمل مسؤوليتها في تحقيق العدالة الاجتماعية،ومحاربة ظاهرة الفقر داخل المجتمع،بنهج سياسات اجتماعية تجعل كرامة الفرد ورفاهيته مؤشر نجاحها،والاستثمار في الانسان الذي يعد مصدر الثروة وغايتها،وعندما نقول الدولة لكونها تمتلك السلطة والثروة،إذ تملك الإرادة السياسية لسن القوانين ووضع المخططات لإعادة التوازن داخل المجتمع وتقريب الفوارق الاجتماعية،وإعادة توزيع الثروة،يقول فرانسيس بيكون:(يجب استخدام السياسة الجيدة حتى لا يتم جمع الكنوز والأموال في دولة ما في أيدي قليلة…المال مثل السماد،وليس جيدا إلا إذا تم نشره)،وكم نحن في حاجة إلى سياسات جيدة وناجعة تضرب على أيدي المفسدين وناهبي الثروة،بسن قوانين تجرم الإثراء غير المشروع،وتحارب المحتكرين لقوت العباد،وترفع شعار “من أين لك هذا؟”.
كما أن الإهتمام بالانسان،الذي هو مصدر الثروة وغايتها،يعد أساس امتلاك الثروة ومحاربة الفقر في مهده،من خلال اعتماد منظومة تعليمية راقية،إذ “يعتبر مستوى التعليم في أي دولة في العالم من بين المؤشرات المعتمدة لقياس نسبة انتشار الفقر فيها”،وكما يعلم الجميع أن تعليمنا يكرس عدم المساواة،والأطفال الفقراء هم الأكثر تضررا لكونهم يدرسون في ظروف غير مواتية،مما يضرب في العمق مبدا تكافؤ الفرص،ويزيد من استدامة الفقر والهشاشة الاجتماعية.
الثاني: تربوي تثقيفي
هنا تبدو الحاجة ماسة إلى نخبة من أهل العلم والمعرفة،لتصحيح فهم المؤمن الفقير لمعنى القضاء والقدر،ودعوته إلى الأخذ بالأسباب المادية لامتلاك الثروة والخروج من الفقر،ولعل في قوله تعالى لمريم_عليها السلام:{وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا}،دعوة إلى العمل والاجتهاد لكسب الرزق،وهذا لا يتنافى مع إيمان المسلم في كونه تعالى الرزاق.
خلاصة:
الفقر آفة خطيرة،والفقراء في معظمهم مسلوبي الإرادة،والأخطر أن له انعكاسات مدمرة على عقيدة المسلم وأخلاقه،وبسببه تؤدي الدولة والمجتمع ضريبة كبيرة،لكونه عائقا في بناء التنمية،وسبب مشاكل اجتماعية كثيرة،من سرقة وجرائم ونهب وإتلاف ممتلكات….،كما يعد الفقراء الفئة الأضعف في التصدي للأخطار والكوارث التي تهدد أمن الدول واستقرارها،كما أنهم غير قادرين على تبني الأفكار العظيمة التي ترتقي بالمجتمع في مدارج الحضارة والتمدن، يقول الإمام الغزالي:”لا أستطيع أن أجد بين الطبقات البائسة الجو الملائم لغرس العقائد العظيمة والأعمال الصالحة …إنه من العسير جدا أن تملأ قلب إنسان بالهدى إذا كانت معدته خاوية”.
إن مسؤولية الساسة جسيمة اتجاه الفقراء،ويعتبر التصدي لظاهرة الفقر واجب إيماني عقدي،لكون الفقر يهدد إيمان المسلم وصفاء عقيدته،وضرورة اجتماعية للحد من آثارها المدمرة على الفرد والمجتمع.
وأخوف ما أخافه على هذا الوطن الذي أحببناه وجعلناه بمنزلة الأم والأب،أن يتم الاستثمار في الفقر لا في محاربته من جهات أسكرها حب المال والسلطة،وهو أمر لا محالة سيهد البناء ويعمق الأزمات.