24 ساعة- محمد أسوار
أحداث كثيرة طبعت التاريخ المعاصر للمغرب، وألقت بظلالها، إيجابا أو سلبا، على الشأن السياسي والاقتصادي والفكري للمملكة، بعضها يتذكرها الجيل الجديد من المغاربة وأخرى صارت في خبر كان.
في هذه الزاوية والتي تنشر على شكل حلقات رمضانية، تنبش ” 24 ساعة” في الذاكرة المغربية، من خلال محطات بارزة، سواء كانت أحداثا أو شخصيات، طبعت حقبة معينة من تاريخنا المعاصرة.
الحلقة السادسة: قصة “مولاي عبد القادر الجيلالي” الذي “يُقْسِمُ”باسمه المغاربة ويتغنى به الجزائريون
يلجأ مغاربة وجزائريون على حد سواء، إلى أداء القَسَم باسم “مولاي عبد القادر الجيلالي” او “بوعلام” حين يريدون أن يثبتوا شيئا فعلوه أو العكس أي نفيه بصيغة الجزم. كما تغنى باسمه شعراء وفنانين، منها تلك الأغنية الجزائرية الشهيرة “عبد القادر يا بوعلام.. ضاق الحال عليا” التي تتردد على لسان جمهور واسع في الدول المغاربية، ووصلت شهرتها للعالمية.
فمن يكون هذا الرجل حتى يؤدي الناس اليمين بإسمه؟ وكيف صار “الجيلالي بوعلام” أشهر من نار على علم في وجدان شعوب المنطقة المغاربية رغم أنه كان مشرقي الموطن؟ أكيد أن وراء شهرته قصة فماهي هذه القصة؟
سيرة “مولاي عبد القادر الجيلاني”
تشير المصادر التاريخية إلى أن عبد القادر الجيلى أو الجيلانى أو الكيلانى، رأى النور سنة 470 هجرية الموافق لعام 1077 ميلادية. هو هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، اشتهر لدى المغاربة بلقب “مولاي عبد القادر الجيلالي” بالألف وليس بالنون كما جاء في التأريخ لسيرته؛ بينما يعرف لدى الجزائريين بلقب “بوعلام الجيلالي”، في حين عرف في المشرق بعبد القادر الجيلاني. وله ألقاب أخرى عديدة، ك “سلطان الأولياء” و”تاج العارفين” و”محيي الدين” و”قطب بغداد” وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه كذلك ب”باز الله الأشهب”، وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
تختلف الروايات التاريخية حول مكان ولادته، بين من يشير إلى منطقة جيلان في إيران ومنها اشتق اسمه (الجيلاني) وتذهب إلى حد التأكيد أن نسبه يعود إلى الامام علي، بينما روايات أخرى ترى أن عبد القادر الجيلاني ازداد في منطقة تدعى أيضا جيلان وتوجد في العراق؛ والرواية الأخيرة أقرب إلى الحقيقة وفق مصادر تاريخية. وكاد هذا الأمر أن يخلق أزمة ديبلوماسية بين إيران والعراق نهاية الخمسينات وبداية الستينات، بعد أن طلبت إيران برفاته من الحاكم العراقي عبد الكريم قاسم، لكن الأخير رفض لكون الشيخ عبد القادر الجيلاني عراقي الأصل، وأغلق الموضوع بتدخل دول عربية.
كغيره من المتصوفين ( الحقيقيين وليس متصوفو هذا الزمان)؛ كان عبد القادر الجيلاني، حسب المصادر، زاهدا ورعا، ومن أسرة “صالحة” ذات شأن ونسب، فأبوه هو أبو صالح موسى كان إنسانا تقيا وفاعلا للخير حتى لقبه عارفوه “محب الجهاد”، أما والدته فكانت معروفة بالخير والصلاح، وكان من ألقابها “سيدة النساء”، وهي ابنة الشيخ عبد الله الصومعي، وكان لها تأثير كبير على حياة عبد القادر من حيث التربية والتهيئة، وعلمته الفضيلة والصدق.
الطريقة القادرية البوتشيشية
إذا كان هناك خلاف كبير حول مكان مولد عبد القادر الجيلاني، فإن المؤرخين، أجمعوا، في مقابل ذلك، على أن الاشعاع الصوفي للشيخ عبد القادر الجيلاني، كان أكبر في المغرب الأقصى منه في المشرق الذي ولد وترعرع فيه، وذلك عبر الطريقة القادرية البوتشيشية التي لا تزال تحظى بمكانة مرموقة في مجتمعات شمال افريقيا، وسميت بذلك الاسم نسبة إلى عبد القادر الجيلاني، في حين أضيفت لها كلمة “بوتشيشية”، نسبة إلى أحد رموز هذه الطريقة وهو العلامة المغربي علي ابن محمد او “سيدي علي بوتشيش” ولقب بهذا اللقب لأنه كان يفرق”الدشيشة” على المحتاجين أيام المجاعة.
تعود جذور الطريقة القادرية إلى القرن الخامس الهجري؛ لكن بداية انتشارها في المغرب الأقصى بدأت سنة 1198 ميلادية، على يد العالم المراكشي الشهير أبي مدين الغوث، ويرى الباحث المصري عبد الله عبد الرازق إبراهيم، في كتابه”أضواء على الطرق الصوفية في القارة الإفريقية”؛ أن الطريقة القادرية أول طريقة منظمة دخلت مراكش ( أي المغرب)، على يد أبي مدين الغوث، الذي قابل مؤسس الطريقة الشيخ عبد القادر الجيلاني في بغداد بعد أداء كل منهما فريضة الحج … “. ولكن كانت الانطلاقة الفعلية للطريقة القادرية في المنطقة على يد الشيخ الكنتي الذي جاب المنطقة – مرافقا لشيخه المغيلي أولا – طولا وعرضا في رحلات دعوية لا تنقطع، قادته إلى المشرق والمغرب ، ثم بعد أن تولى مشيخة الطريقة القادرية بعد وفاة شيخه المغيلي انطلق يجوب هذا النطاق الجغرافي الممتد من حوض نهر النيجر وبلاد السودان جنوبا إلى أقصى شمال بلاد المغرب داعيا الناس إلى مباديء الدين الحنيف ، ومربيا الأجيال على مباديء طريقته القادرية البكائية الكنتية ، وظل كذلك حتى توفاه الأجل، ودفن في آقا قرب مدينة طاطا.
يوجد في الجزائر أتباع بالآف للطريقة القادرية وتنتشر في أرجاء البلاد زوايا تابعة لها، وتتواجد في ولايات زمورة والشلف وتيارت والوادي وورقلة والأوراس وكنتة، وقد بلغ عددها 33 زاوية في نهاية القرن التاسع عشر، وينتمي إليها أزيد من 25 ألف مريد.
أما في المغرب فيوجد مركز القادرية البودشيشية، بقرية مداغ بمدينة بركان، في شرق المملكة وغير بعيد على الحدود مع جارته الجزائر؛ ينظم البودشيشيون المغاربة تظاهرتين خلال كل سنة، يحضرها مايقارب من 300 ألف شخص، يأتون من مختلف بقاع العالم، الأول يكون في ليلة القدر خلال شهر رمضان والثاني في ذكرى المولد النبوي.
الشيخ والمريد واستغلال “الجيلالي” في الشأن السياسي
ما يؤاخذ على المتصوفين الجدد، سواء في المغرب أو في الجزائر وحتى في معظم الدول العالم الثالث التي لا تزال تنشط فيها الطريقة القادرية والزوايا الصوفية عموما؛ هو انحرافها عن المبادئ الاساسية التي أسست لأجلها؛ فلم تعد هذه الزوايا تكتفي بإطعام الفقير وتساعد الناس على الهداية والوعظ، بل صارت الدول تستغل قوة هذه الزوايا، في التأثير على الأراء السياسية للناس، وصارت تستعمل كأداة لضرب التيارات الدينية التي لا تنظر إليها الدولة بعين الرضا.
كما أن هذه الزوايا تواجه بانتقادات حادة في علاقة التقديس التي تجمع “الشيخ والمريد”، ويرى عديد المتتبعين، أن شيوخ المتصوفة، ومن بينهم عبد القادر الجيلاني، ما كان سيعبر عن رضاه بتلك الطقوس المهينة والبدائية والغارقة في العبودية، لو كان حاضرا بيننا، ولن يقبل حتى بأداء اليمين باسمه لأنه يضرب أساس العقيدة الإسلامية باعتباره “شركا مبينا”.