أحلام رحومة
عرف قطاع التربية والتّعليم في تونس تحوّلات كبيرة منذ الإستقلال إلى اليوم بخضوعه لبرامج إصلاح متعدّدة لم تنجح أغلبها في إحداث تطور جوهري في العملية التربوية.
هذه الإصلاحات المسقطة جعلت القطاع يتخبط تحت تأثير تغير التجارب والمناهج، الأمر الذي أثر سلبا على مستوى التلميذ التونسي وفاقمت من نسب الرسوب والإنقطاع عن الدراسة.كما تعيش المنظومة التعليمية في تونس مشاكل عديدة ونتائج كارثية.
حيث يعاني قطاع التعليم في تونس من أزمة حادة عقب اندلاع ثورة يناير 2011، في ظل تراجع المنظومة التربوية خاصة على مستوى المناهج وبسبب النقص في عدد المدرسين، إضافة إلى تدهور البنية التحتية وتداعيات المطالب النقابية على سير الدروس، ما جعل البلاد تحتل مراكز غير مطمئنة في التصنيفات الدولية لقطاع التعليم.
ويقول خبراء إن السياسات الخاطئة وراء تدني هذا القطاع، إذ أنهم حذروا من تراجع جودة التعليم في تونس، خاصة في فترة جائحة كورونا وتستدعي هذه المخاوف الحاجة إلى خطط إصلاح للنهوض بالقطاع وإنقاذه حماية لحق الأجيال الناشئة في التعليم..
وفي الوقت الذي تعتبر المؤسّسة التعليمية في تونس مصعدا اجتماعيا مهمّا، وفضاء مدنيّا حيويّا، اضطلع، عقودا، بمهامّ تربية الأجيال الصّاعدة، وتخريج ذوي الكفاءة، والتمكين لمجتمع المعرفة في سياق تونسي. والمتابع للشأن التربوي بعد الثورة يتبيّن أنّ قطاع التعليم في تونس، بمراحله المختلفة، الابتدائية والثانوية والجامعية، يشهد حالةً من الارتباك والتوتّر. جلّى ذلك تواتر احتجاجات الجامعيين والمربّين، وانخراط الطرف النقابي في مواجهةٍ مستدامةٍ مع وزارة الإشراف، بلغت درجة الإضراب والاعتصام حينا، ومقاطعة الامتحانات والإحجام عن تسليم الأعداد حينا آخر. وبدا طلبة العلم ضحيّة ذلك التنازع بين الطرفين، فهم يفقدون، في كلّ موسم احتجاجي، حقّهم في التعلّم والمتابعة والتقييم مُددا متفاوتة. والواقع أنّ أزمة التعليم في تونس بنيوية/ مركّبة، يُمكن تلخيصها في ثلاث مسائل بارزة، تتعلّق الأولى بتدهور الوضع المهني/ المادّي للمربّي، والثانية بسوء البنية التحتية/ اللوجيستية للمؤسّسة التعليميّة، والثالثة بعدم إصلاح نظام التدريس ومحامله المعرفية.
انهيار منظومة التعليم العمومي، واحد من بين أسباب تعمق ظاهرة البطالة، منذ تركيز المنوال التنموي الحالي في أواسط الثمانينات، والذي تحولت منظومة التعليم العمومي بسببه من وسيلة لتكوين إطارات ذات كفاءة عالية تكفي حاجيات الدولة وتحقق الارتقاء الاجتماعي لأبناء العائلات الفقيرة والمتوسطة، إلى آلة لإنتاج العاطلين عن العمل أصحاب شهائد ورقية غير معترف بها وتكوين لا يتلاءم وحاجيات سوق التشغيل.
أزمة التعليم العمومي في أرقام
تلاميذ منهكون لا يبتسمون إلا إذا رنّ الجرس لمغادرة المدرسة ، مجبرون على حمل محافظ ثقيلة، وتحمل ساعات طويلة من الدروس، أساتذة عابسون، أقسام مكتظة، طاولات وكراسي متهرئة، قاعات أسقفتها على وشك الانهيار، برامج مملة، عنف وغيره، هكذا تبدو صورة التعليم العمومي في تونس، والنتيجة آلاف المنقطعين عن الدراسة أو العاطلين عن العمل أو خريجي جامعات لا ترتقي مكتسباتهم ومهاراتهم إلى متطلبات سوق الشغل لا الوطنية ولا العالمية.
لقد انحدرت منظومة التعليم العمومي في تونس إلى أسفل المستويات وباتت المؤسسات التربوية التونسية منتجي فاقدي الأمل في المستقبل، ولعلّ الأرقام أكبر دليل على انهيار منظومة التعليم العمومي التي خلّفت 742.8 ألف عاطل عن العمل من إجمالي السكان النشطين الذين يفوق عددهم 4.1 مليون شخص، وفق مؤشّرات التشغيل والبطالة للثلاثية الأولى من سنة 2021 التي نشرها المعهد الوطني للإحصاء.
كما حلت تونس في المرتبة 84 عالميا والسابع عربيا، في مؤشر جودة التعليم ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﺍﻟﺼﺎﺩﺭ ﻋﻦ المنتدى ﺍﻻقتصادي ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻓﻲ دافوس 2021، من أصل 140 دولة، مرتبة متأخرة عززها ارتفاع نسب الانقطاع عن الدراسة والهدر المدرسي و ارتفاع منسوب العنف، ومناهج تربوية ضعيفة وميزانية لا تلبي الحد الأدنى من الحاجيات.
فاق عدد المنقطعين عن الدراسة في التعليم الأساسي والثانوي 100.000 منقطع سنويا وقد بلغ عدد المنقطعين بين 2010 و2019 حوالي مليون تلميذ، أغلبهم في ولايات القيروان والقصرين وسيدي بوزيد وجندوبة، أين يعجز الأولياء عن تحمل نفقات التعليم بسبب تفاقم الفقر.
عامل آخر يعكس الأزمة التي تمر بها منظومة التعليم العمومي، وهو نسبة الهدر المدرسي أو الرسوب التي بلغت 3.7 بالمائة في المرحلة الابتدائية و17 بالمائة في المدارس الإعدادية وحوالي 18 بالمائة في المعاهد الثانوية (وزارة التربية الإدارة العامة للدراسات والتخطيط ونظم المعلومات السنة الدراسية 2019/ 2020)
الامتحانات الوطنية عرّت هي الأخرى المستوى المتدني للتلاميذ في اللغات الأجنبية و المواد العلمية والأدبية، حيث انخفضت نسبة النجاح في امتحان البكالوريا بالمعاهد العمومية والخاصة بعد قرار وزارة التربية التخلي عن احتساب نسبة الــ25 بالمائة من الامتحان السنوي في الامتحان النهائي للبكالوريا، والذي انطلق العمل به منذ 2002 في إطار المنوال التنموي وإصلاحات منظومة التربية أنذاك ، إلغاء نسبة الــ 25 بالمائة كشف عن المستوى الضعيف للتلاميذ واكتظاظ الجامعات بطلبة دون المستوى المطلوب. وانخفضت نسبة النجاح في امتحان البكالوريا من حوالي 70 بالمائة سنة 2010 إلى 42 بالمائة سنة 2020 في القطاع العمومي، كما تضررت المعاهد الخاصة من هذا القرار بعد أن كانت المستفيد الأكبر منه، حيث انخفضت نسبة النجاح في البكالوريا بالمعاهد الخاصة من 28 بالمائة سنة 2010 إلى 12 بالمائة سنة 2019 ، حتى أنها بلغت 5 بالمائة سنة 2015.
المستوى المتدني للتلميذ التونسي جعل تونس تتذيل الترتيب في التقييمات الدولية ، فقد احتلت تونس في تقييم PISA سنة 2009 في اللغات والرياضيات المرتبة 56 و60 على التوالي من جملة 65 دولة مشاركة، كما بينت نتائج التقييم سنة 2012 في الرياضيات حسب المستويات 6 التي يصنفها برنامج التقييم، أن 89 بالمائة من التلاميذ التونسيين لهم مستوى أقل من الصنف 2 و أن نسبة التلاميذ المتميزين في الرياضيات لا تتجاوز 0.8 بالمائة.
وكشف تقييم TIMSS الذي يركز على الرياضيات والعلوم تواضع التكوين في هذا المجال، حيث احتلت تونس في 2011 في الرياضيات والعلوم على التوالي المرتبتين 47 و48 من بين 50 دولة مشاركة، وذلك وفق دراسة نشرها المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في سبتمبر 2021.
مناهج ضعيفة لا تحقق تربية ولا تعليما
بات واضحا أنّ توجهات التعليم في تونس هدفها الترفيع في نسب التمدرس والنجاح على حساب الجودة فرغم ارتفاعها يبقى مستوى التلميذ التونسي ضعيفا.
طوابير من التلاميذ والطلبة ذهابا وإيابا إلى المدارس و المعاهد والجامعات بمحافظ مثقلة بالكتب وعقول فارغة عاجزة عن التفكير والتحليل والنقد، قدرتها الوحيدة هي إعادة ما كتب في الكراس.
لقد بات التلاميذ والطلبة ضحايا برامج تعليمية أساسها التلقين والحفظ، حيث تعودوا على حفظ ما تم تلقينه لهم وإعادته بحذافيره في التقييمات والامتحانات، مناهج أنتجت أشخاصا عاجزين عن بلورة فكرة وتحليلها أو نقدها بل إنهم يكتفون بحفظ ما دونوه في كراساتهم وإعادة كتابته حتى أنهم لا يعون أحيانا معنى ما يكتبون، عملية تربوية تعتمد بالأساس على التلقين وهو ما يحول دون إمكانية تنمية مدارك التلاميذ واستغلال جميع طاقاتهم، وتؤسس لخريجي جامعات لا يستجيبون لمتطلبات سوق الشغل.
ويزيد من تعميق الأزمة الضعف الكبير المسجل على مستوى النشاط الثقافي والرياضي بالمؤسسات التربوية ما يحول دون تطوير ثقافة المواطنة و تقبل الآخر والاختلاف وروح التطوع والعمل الجماعي، مما أدى إلى استفحال ظاهرة العنف في المؤسسات التربوية، لعلنا نقرأ يوميا في الصحف والمواقع الالكترونية أو نكون شهود عيان عن ممارسات ما فتأت تستفحل في المؤسسات التربوية، تلاميذ ضحايا عنف لفظي ومادي من قبل الأساتذة أو العكس، أولياء يقتحمون المدارس والمعاهد ويهاجمون الإطار التربوي وغيره من حالات العنف المتكرّرة، وحسب دراسة للمعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية فقد تم تسجيل 14792 حالة عنف مادي صادرة عن التلاميذ و7392 حالة صادرة عن المربين.
نظام تعليمي أسّس لفجوة عميقة بين المهارات التي ينتجها واحتياجات الاقتصاد الوطني، يجعل من خريجي الجامعات التونسية خارج دائرة اهتمامات القطاعين الخاص والعمومي في تونس والخارج.
إنّ أزمة التعليم في تونس تستدعي ضرورة إصلاحات عميقة نادى بها الكثيرون منذ 2011 ، والحال أنّه لا إرادة سياسية للانخراط في مسار إصلاحي عميق، رغم أنه لا حلّ للدولة للخروج من أزمتها الاقتصادية والاجتماعية إلا الاستثمار في الرأس المال البشري واسترجاع مكانة التعليم الذي سيمكنها من إنتاج كفاءات قادرة على الخروج بالبلاد من أزمتها.
ولكن يبدو أنّ النهوض بالتعليم ليس من أولويات حكومات تونس التي انغمست في معارك سياسية عمقت أزمة البلاد.
فعلى مرّ عشر سنوات منذ 2011 تم رفع شعارات إصلاح المنظومة التربوية مع مختلف الحكومات، لكن أثبت الزمن أنها شعارات جوفاء لم تنعكس على الميزانيات المرصودة لوزارة التربية ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إذ يبدو الاختلال واضحا في ميزانية وزارة التربية لسنة 2020 ، بين نفقات التصرف التي تستحوذ على 95.02 بالمائة من الميزانية ونفقات التنمية التي خُصّص لها 4.98 بالمائة فقط من الميزانية، وهي تقريبا نفس الأرقام على مر العشر سنوات الفارطة، كما تراجعت ميزانية وزارة التربية من 15.9 بالمائة من ميزانية الدولة في 2010 إلى 13.7 في 2018 قبل أن ترتفع إلى 16.6 في 2020.
أرقام تعكس عدم مراهنة الحكومات المتتالية على التعليم وأنّ إصلاح منظومة التعليم العمومي ليس من أولوياتها.
ويقول الدكتور محمد بن فاطمة الخبير الدولي في تقييم النظم التربوية أن الإصلاح التربوي يشمل مراجعة للمنظومة التربوية على مستوى المناهج التربوية، ومنظومة التقييم، وتقييم المدرّسين والزمن المدرسي. كما يشمل إضافة جوانب أخرى في المنظومة التربوية يفرضها تطوّر المجتمع في ضوء العولمة والثورة التكنولوجية وتداعياتها، وهو ما يتطلب إعادة النّظر في المضامين بمنهجية متطورة.”
وفي سياق أخر أشار الجامعي والأكاديمي محمد الصحبي الخلفاوي إلى أن “الوضع التعليمي سيء جدا في الـ20 سنة الأخيرة وتفاقم الوضع أكثر في العشر سنوات الأخيرة، فضلا عن كون التحصيل العلمي فيه مشاكل مع تردي الوضع الصحي في الموسمين الأخيرين، ما أدى إلى تقطع البرامج واختصارها”.
وأضاف “الوضعية الآن سلبية، وتداعيات مرحلة كورونا على المستوى التعليمي سنلاحظها في السنوات القادمة، علاوة عن مسألة التحركات النقابية مع وزارة التربية”.
وغذت الصراعات المستمرة بين النقابات الأساسية للتعليم ووزارة التربية الأزمة، ومع انطلاقة كل موسم دراسي سرعان ما تطفو على السطح مطالب الأساتذة والمربين المطالبة بالترفيع في الأجور أو النظر في وضعيات التشغيل، فضلا عن مطالب نقابية تتعلق بالقطاع.
وبرأي الخلفاوي فإن “الصراع النقابي أثر على الرأي العام ودفع جزءا كبيرا من العائلات للهروب إلى التعليم الخاص”. من ثم تراجع جودة التعليم.
وفي الأخير يمكن القول إنّ التعليم العمومي أساس التنمية المستدامة الشاملة، وقوام النهضة الحضارية، وباب النفاذ إلى الحداثة والفعل في مجتمع المعرفة. لذلك، من المهمّ بمكان المحافظة على مجانيّة التعليم العمومي في تونس، والعمل على تطويره وإصلاح ما اعتراه من إخلالات. وذلك ممكنٌ بتحسين الوضع المهني للمدرّسين، وتوفير بيئةٍ مساعدةٍ على التعليم والتعلّم، والعمل على عصرنة مناهج التعليم وبرامجه، لتواكب مستجدّات العصر الرقمي، وتغيّرات تونس الجديدة. وتحقيق تلك المطالب موكولٌ إلى الطرف الحكومي وأهل الاختصاص والفاعلين في المجتمع المدني على السواء.