24 ساعة ـ متابعة
تشكل جولة الرئيس إيمانويل ماكرون الحالية إلى أربع دول بوسط وغرب أفريقيا حلقة جديدة في سلسلة من مبادرات وزيارات مكثفة بلغت 18 زيارة منذ توليه الرئاسة سنة 2017. ولم يسبق لرئيس فرنسي أن قام بها في فترة ولايته (حاليا الولاية الثانية للرئيس ماكرون)، فيما يؤشر إلى اهتمام استثنائي موجّه للقارة الأفريقية. يعتبره مراقبون نابعا من “تحوّل” في سياسة فرنسا الأفريقية.
في ذات الصدد، يؤكد منصف السليمي، صحفي خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألماني. في مقالة تحليلية أن الرئيس ماكرون كشف عن بعض ملاح هذا التحول بدعوته الفرنسيين إلى “التواضع” تجاه القارة الأفريقية. كما أعلن عن خطوات بتخفيض الوجود العسكري في عدد من دول القارة. وخصوصا في منطقة الساحل وجنوب الصحراء.
و ابرز الكاتب أن الرئيس الفرنسي لم يخفي في خطابه بتاريخ 27 فبراير 2023. حول ” الاستراتيجية الدبلوماسية لفرنسا” في أفريقيا أبعاد الصراع والمنافسة التي تواجه الفرنسيين في القارة السمراء. وبلغة واقعية اعترف ماكرون بتراجع مكانة فرنسا على الأصعدة الاقتصادية والاستراتيجية.
وبقدر ما ينطوي خطاب الواقعية الذي بات يصدر من قمة هرم الدولة الفرنسية، على اعتراف بتراجع نفوذ القوة الاستعمارية السابقة. فهو يحمل معه توجهات لتحقيق انطلاقة جديدة للدور الفرنسي هناك. وهو ما يقود إلى التساؤل حول الأوراق التي يمكن أن يعتمد عليها ماكرون لتحقيق استراتيجيته الأفريقية، وبالمقابل ماذا عن المعادلات الصعبة التي يمكن أن تواجهه خصوصا في مدى زمني ضيق لا يتجاوز أربع سنوات متبقية من ولايته الرئاسية (الثانية).
وشدد السليمي أن ماضي فرنسا الإستعماري وتطور روابطها الخاصة مع أفريقيا، تتوفر فرنسا على أوراق كثيرة للنفوذ في القارة السمراء. بيد أن النفوذ الفرنسي يسجل في العقدين الأخيرين مؤشرات تراجع ملحوظ سواء بالمقارنة مع دول أوروبية أخرى والولايات المتحدة. أو مع الصين وروسيا. وقوى أخرى صاعدة مثل تركيا.
أولا: الهجرة الأفريقية
و ابرز الكاتب أن فرنسا تعد أول وجهة في العالم لاستقبال المهاجرين الأفارقة، إذ تستقبل سنويا 20 في المائة منهم. ويتجاوز عدد الأفارقة في فرنسا. عشرة ملايين شخص نصفهم مغاربيون، ويشكلون حوالي 15 في المائة من مجموع سكان البلاد، وفق أرقام رسمية فرنسية.
ورغم أن سياسة فرنسا الخارجية تعتمد بشكل واسع على توظيف النخب والكفاءات الأفريقية كجسور مع بلدانهم الأصلية، تلقي التعقيدات المتزايدة التي تواجه المهاجرين الأفارقة على صعيد السياسة الداخلية الفرنسية، ولاسيما في ظل الضغوط المتنامية لليمين المتطرف، بظلال من الاضطراب في علاقة الهجرة الأفريقية بالمجتمع والمؤسسات الفرنسية.
ثانيا: هل تفقد فرنسا تأثير قوتها الناعمة؟
و اضاف الكاتب في مقالته أن الدول الفرنكفونية (الناطقة جزئيا أو كليا باللغة الفرنسية) حوالي نصف دول قارة أفريقيا ويقطنها زهاء ثلث سكان القارة، وتعتمد فرنسا على مستعمراتها السابقة كأساس لمنظمة الفرنكفونية (50 % من أعضاء المنظمة الأساسيين)، التي تعد من أهم أدوات السياسة الثقافية الفرنسية وقوتها الناعمة في العالم. ويوجد أعلى معدل استخدام للغة الفرنسية في أفريقيا، مثلا (61 في المائة من السكان) في الغابون البلد الغرب أفريقي الذي استهل به ماكرون جولته الأفريقية الحالية.
بيد أن نفوذ فرنسا الثقافي وخبرتها التاريخية في أفريقيا تتقلص، إذ تفيد دراسات وإحصاءات بأن استخدام اللغة الفرنسية يشهد تراجعا في مجالات تقليدية مثل التعليم والإعلام وأوساط الأعمال. ويثير هذا المؤشر قلقا كبيرا لدى صانعي السياسة الثقافية الفرنسية، لاسيما وأن تراجع استخدام اللغة الفرنسية يبرز لدى الفئات الشابة في الدول الفرنكفونية، وهي الفئات الأكثر حضورا في وسائل التواصل الحديثة والتكنولوجيا والاقتصاد الرقمي.
وخلال قمة الدول الفرنكفونية التي احتضنتها جزيرة جربة التونسية في نوفمبر/ تشرين ثاني 2022، اعترف الرئيس ماكرون بأن مكانة لغة موليير تتعرض “لانتكاسات”، على جبهات عديدة خصوصا في المنطقة المغاربية مشيرا بالخصوص إلى فئات الشباب، ووصفها بـ “مقاومة شبه سياسية” للنفوذ الثقافي الفرنسي، وهو منحى يسجل وبدرجات أكثر حدة أحيانا لدى نخب ثقافية وسياسية في عدد من بلدان جنوب الصحراء وغرب أفريقيا، مثل مالي وبوركينافاسو والسنغال.
ثالثا: نفوذ اقتصادي تواجهه تحديات
تتمتع فرنسا بحضور اقتصادي وتجاري قوي في القارة الأفريقية، حيث تنشط أكثر من 1100 مجموعة استثمارية فرنسية عملاقة وحوالي 2100 شركة كبيرة، وفرنسا هي ثالث مستثمر في القارة بعد بريطانيا والولايات المتحدة، لكن مكانتها باتت متراجعة بسبب دخول شركاء غير غربيين على الخط إذ باتت الصين أكبر شريك اقتصادي للدول الأفريقية، كما أصبحت تركيا شريكا منافسا في أسواق كانت تتمتع فيها فرنسا بنفوذ تقليدي مثل الجزائر وليبيا والسنغال.
ولا تقتصر معضلة فرنسا في فقدان مكانتها في المنطقة المغاربية، كشريك أول للمغرب لصالح إسبانيا، ولصالح الصين في الجزائر، بل مثلا في تحول حليفها التقليدي المغرب إلى منافس لها في منطقة غرب أفريقيا.
وثمة مؤشر آخر يهدد الحضور الاقتصادي الفرنسي يتمثل في تنامي نزعات التمرد على النفوذ الفرنسي داخل تكتلي “المجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا” و”المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا” واللتين تستخدمان “الفرنك الأفريقي” كعملة مرتبطة بالسوق المالية الفرنسية، بناء على اتفاقيات مالية أبرمت سنة 1945 إبان الحقبة الاستعمارية. ويقدر خبراء اقتصاديون بأن دول هذه المجموعة تدفع نسبة تفوق 50 في المائة من احتياطاتها من العملات الأجنبية إلى الخزانة الفرنسية. وباعتمادها على عملتها الخاصة “الإيكو” سيتجسد فك الارتباط المالي بين “المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا” وفرنسا بحلول سنة 2027.
رابعا: ماذا بعد تخفيض القوات الفرنسية؟
يناهز الحضور العسكري الفرنسي في أفريقيا في مجمله حاليا عشرة آلاف عسكري يتمركز معظمهم في غرب ووسط وشرق القارة، وذلك وفق إحصاءات 2023 بموقع مجلس الشيوخ الفرنسي. وفي سياق جولته الأفريقية، جدد الرئيس ماكرون تأكيده على مواصلة فرنسا تخفيض عدد قواتها وخصوصا في منطقة الساحل وجنوب الصحراء إلى حدود نصف قوامها. وأوضح أن “التحول سيبدأ في الأشهر المقبلة عبر خفض ملموس لعديدنا وحضور أكبر في القواعد (العسكرية) لشركائنا الأفارقة”، وتعهد بأن “تبذل فرنسا مزيدا من الجهد على صعيد التدريب والتجهيز”.
وتأتي الخطوات الفرنسية في سياق أوضاع متوترة في عدد من الدول الأفريقية التي تعتبر مناطق نفوذ تاريخية لفرنسا، وتوجد بها قواعد عسكرية أو قوات فرنسية. وتزامن ذلك مع تنامي النفوذ الروسي المباشر مع نخب عسكرية استولت على السلطة أو عبر مرتزقة الفاغنر التي باتت توكل إليها مهمات أمنية في مناطق الاضطراب وفي مواجهة الجماعات الجهادية، بعد سنوات من تمركز قوات فرنسية ودولية هناك.
ويرفض الرئيس ماكرون الحديث عن تنافس مع روسيا والصين في القارة الأفريقية ويرى بأن الأمر يأتي في سياق مختلف، وقال ماكرون في إشارة إلى روسيا ومجموعة “فاغنر” العسكرية المقربة من الكرملين والمنتشرة خصوصا في إفريقيا الوسطى ومالي رغم نفي باماكو ذلك: “يريد كثيرون دفعنا للدخول في منافسة، أعتبرها مفارقة تاريخية (…) يصل البعض مع جيوشهم ومرتزقتهم إلى هنا وهناك”. وأضاف “في يوم من الأيام سوف يفهم الأفارقة أن خصومهم هم في الواقع مرتزقة روس ومستثمرون صينيون، أكثر بكثير من المستعمرين الأوروبيين السابقين”. متسائلا “ما هو الوقت الذي يستغرقونه ليدركوا ذلك؟” .
وفي مواجهة الأصوات المتصاعدة في القارة الأفريقية المنتقدة لسياسة فرنسا وعدم تكافؤ ميزان المصالح بين الطرفين، يرد فيليب جيلي في مقال افتتاحي لصحيفة “لوفيغارو” الفرنسية بأن الرئيس ماكرون محق في تركيزه على تنشيط الدور الفرنسي في القارة السمراء “لأن فرنسا لا يمكن أن تستبعد نفسها من قارة أمامها مستقبل مشرق. ولكن إذا أرادت البقاء، فعليها تغيير نهجها”.
لكن ما هو المدى الذي تغيّر به فرنسا سياستها، هل يتم ذلك إلى درجة إحداث قطيعة مع سياسة “فرنسا الأفريقية” وهو مصطلح يشير إلى شبكات نفوذ فرنسا الموروثة من الاستعمار مع ما يرافقها من سياسات يكتنفها الغموض أو الازدواجية مثلا بين المصالح والقيم مثل دعم اقتصاد الريع ودكتاتوريات وأنظمة عسكرية على حساب قيم حقوق الإنسان.
برأي الكاتبة الصحفية الفرنسية ماريا مالاغارديس فان العبارات التي استخدمها ماكرون في خطابه الذي ألقاه في الإليزيه ينطوي على “الحمض النووي” لخطابه الذي ألقاه قبل خمس سنوات في جامعة واغادوغو في بوركينافاسو، وذلك بتأكيده على “نهاية حقبة من تاريخ فرنسا بأفريقيا” وبداية “شراكة فرنسية أفريقية جديدة”، وقد كرر ماكرون هذه العبارات في لقاء عقده مع أعضاء من الجالية الفرنسية في الغابون.
وبالمقابل فإن نخبا سياسية سواء في الحكم أو في هيئات المجتمع المدني في عدد من الدول الأفريقية، تبدي عدم ثقتها في سياسة فرنسا، فبتزامن مع بداية جولة ماكرون في المنطقة، تلقت وزيرة خارجيته كاثرين كولونا رسالة من نظيرها البوركينافي تعلن من خلالها دولة بوركينا فاسو وقف العمل بـ”اتفاق المساعدة العسكرية” الموقع عام 1961، وفي شهر يناير/ كانون أول الماضي طلبت بوركينا فاسو سحب القوات الفرنسية من هذا البلد الذي يشهد أعمال عنف تنفذها جماعات جهادية. وفي عواصم زارها ماكرون تظاهر نشطاء من المجتمع المدني ضد سياسة فرنسا وازدواجيتها في قضايا حقوق الانسان والبيئة. رغم أن ماكرون شدد على اهتمامه بتطوير العلاقة مع المجتمع المدني ودعم قضايا الديمقراطية والنأي عن الحكام المستبدين.
معادلة مغاربية صعبة
في خضم مبادرته لإعادة الزخم لاستراتيجية فرنسا الأفريقية، يضع الرئيس ماكرون ملف العلاقات المغاربية تحت الأضواء، بتصريحاته التي شدد فيها على “مضيه في العلاقات مع المغرب والجزائر”. وبقدر ما يؤشر ذلك إلى أهمية المنطقة المغاربية كجسر بين فرنسا والعمق الأفريقي، يبدو الرئيس ماكرون بعد ست سنوات في الإليزيه ومبادراته المتأرجحة بين الجزائر والرباط، وكأنه يعيد طرح المعادلة المغاربية في سياساته من الصفر.
فقد بات من الواضح أن باريس تصطدم في حقيقة الأمر بتطلعات الدولتين المغاربيتين المحوريتين (الجزائر والمغرب) التي أصبحت تتجاوز سقف السياسة التقليدية التي اعتادت فرنسا إدارة سياستها المغاربية بها. حيث توجد باريس تحت وطأة انتظارات متزايدة من الرباط والجزائر، من أجل الحفاظ على مصالحها في منطقة نفوذها التقليدي؛ حتى ولو كان بشكل أقل مما كان عليه من خلال وضعها في السابق، من ناحية، ناهيك عما تنتظره (باريس) من تعاون مغاربي يساعد في تحقيق أهداف سياستها الأفريقية.
وهو ما قد يفرض على باريس ضغوطا مزدوجة من الجارين اللدودين (الجزائر والمغرب) من أجل تقديم تنازلات، في وقت كانت فيه مثلا تنتظر الحصول على تسهيلات لوجستية وعسكرية وأمنية لتدارك تراجعاتها في ليبيا ودول الساحل والصحراء، أو حاجتها لتعاون أقوى من أجل تقليل الخسائر في ظل تراجع نفوذها الاقتصادي والأمني والثقافي خصوصا في غرب أفريقيا.
ويبدو أن ملف الصحراء الغربية يأتي في صلب القضايا الشائكة التي تضع سياسة الرئيس ماكرون في اختبار صعب، عبرت عنه صحيفة “لوموند” القريبة من دوائر صنع قرارات السياسة الخارجية الفرنسية بـ”معادلة توازن مغاربية صعبة”. ويأتي ذلك على ضوء حاجة فرنسا وأوروبا المتزايدة لموارد الطاقة الجزائرية، ومن زيادة أولوية ملف الصحراء الغربية في سلم “الأمن القومي الجزائري” أكثر من أي وقت مضى.
وبالمقابل تكرست أهمية هذا الملف كحجر زاوية في منظور “الأمن القومي المغربي”، إذ وصفه العاهل المغربي الملك محمد السادس في خطاب عيد العرش (يوليو تموز 2022) بأنه بمثابة “النظارات” التي يرى بها المغرب علاقاته الخارجية وشراكاته وبأنه لن يقبل بالتعامل مع “المواقف الرمادية”. وكانت تلك، برأي المراقبين، رسالة واضحة لفرنسا، مفادها أن الحفاظ على امتيازاتها في السوق المغربية سيتحدد في ضوء الموقف الذي ستتخذه من ملف الصحراء.
ورغم أن فرنسا تعتبر داعما تاريخيا لموقف المغرب سواء على المستوى الدبلوماسي أو العسكري، إلا أن الرباط باتت تريد من شركائها دعما أقوى من أجل حسم النزاع على مستوى الأمم المتحدة اعتمادا على مقترح الحكم الذاتي الموسع الذي طرحته منذ سنة 2007، وحصل على دفعة قوية باعتراف الولايات المتحدة الأمريكية في عهد إدارة الرئيس السابق ترامب، بسيادة المغرب على الصحراء، وأعقبته مؤخرا مواقف أوروبية (إسبانيا، ألمانيا، هولندا، النمسا) داعمة لمقترح الحكم الذاتي كأساس “واقعي” لتسوية النزاع الذي المستمر أزيد من نصف قرن.
دور أوروبي ضعيف
في الوقت الذي تتعاظم فيه التحديات أمام الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية، وتظهر فيه فجوات استراتيجية كبيرة وضعف تنسيق بين سياسات الدول الأوروبية في ميادين الهجرة والأمن والاستثمار والتعاون مع الدول الأفريقية،
باتت تطرح أسئلة أكثر حدة حول مدى قدرة الأوروبيين على بلورة سياسة خارجية ودفاعية منسقة، لاسيما في مناطق حسّاسة بجوارهم سواء في شمال أفريقيا أو في القارة السمراء بصفة أشمل.
ومن أبرز الأمثلة الدالة على ذلك ضعف التنسيق الأوروبي إزاء الأزمة الليبية والوضع في دول الساحل وجنوب الصحراء إضافة للعلاقات مع البلدان المغاربية، وكما في هذه الأمثلة وفي حالات أخرى تُوجه لباريس انتقادات أوروبية بشان نزعتها الانفرادية في إدارة سياستها المغاربية والأفريقية.
ويؤكد خبراء في برلين وباريس بأنه لا يُتصور في عواصم أوروبا أنه في حقبة ما بعد حرب أوكرانيا، سيكون بدون توافق ألماني فرنسي دور مؤثر للاتحاد الأوروبي في نظام دولي تتفق معظم التوقعات والسيناريوهات، بأنه سيكون قائما على التعددية القطبية، وبأن قوى صاعدة منافسة للغرب مثل الصين والهند وروسيا سيكون لها مكانة أساسية فيه.
** صحفي خبير بالشؤون المغاربية في مؤسسة DW الألمانية