أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
تميزت سنة 649م بحدث من الأهمية بمكان، وقد تجلى في انتصار المسلمين على بيزنطة. وابتداء من هذه السنة كذلك اختفى – ولمدة ثلاثة قرون ! – كل أثر لأساقفة شمال إفريقيا. وإذا كان الدارسون يرجحون دخول المسيحية إلى المغرب من الشمال عن طريق البحر انطلاقا من اسبانيا وإيطاليا، فإن الإسلام دخله من الجهة الشمالية الشرقية عن طريق البر بعد مواجهات عنيفة متتالية، ليس فقط مع جنود الاحتلال البيزنطي ومن كان يؤتمر بأمرهم من الأمازيغ وممن تبقى من الجاليات الرومانية والوندالية، بل وبصفة عامة، مع كل سكان المنطقة الذين ضاقوا ذرعا من التدخلات الأجنبية المتكررة على بلادهم. ولم يستوعب الأمازيغ فحوى وعمق الرسالة الإسلامية إلا تدريجيا.
ولذلك استغرق الفتح الإسلامي لأقطار الشمال الإفريقي حوالي سبعين سنة، بينما لم يستغرق أكثر من عشر سنوات في إعلان انتشاره في العراق وفارس والشام ومصر. ما من شك أنه كان لعوامل البعد الجغرافي والتضاريس البيئية المغاربية والمقاومة الأمازيغية دورها في تأخير وعرقلة الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا. ونقول «الفتح الإسلامي» وليس «الغزو الإسلامي» لأن الفاتحين المسلمين لم يكونوا أصحاب مشروع استعماري استغلالي كما كان الشأن بالنسبة للرومان مثلا، وإنما جاؤوا بدافع روحي، حاملين لرسالة سماوية يؤمنون بكل إخلاص بصحة تعاليمها وبتفوق فلسفة هدايتها على كل الأديان المعروفة. وأما مقاومة الأمازيغ لهم، فلم تكن موجهة ضد الإسلام كما يحلو للبعض أن يصفها، لأنهم كانوا يجهلون كل شيء عن الإسلام انطلاقا من اللغة العربية التي جاءت حاملة لرسالته. وعليه فإنه كان من الطبيعي أن يتصدوا لكل تدخل أجنبي حفاظا على استقلالهم وعلى كرامتهم مهما كلفهم ذلك من تضحيات، لاسيما أن صراعهم المستميت ضد الرومان والوندال والبيزنطيين أكسبهم خبرة قتالية عالية جعلتهم يمتلكون الثقة بالنفس و يتشككون في نية كل وافد عليهم.
وللاطلاع على أحداث هذه الحقبة الزمانية بالذات، لا بديل عن المصادر التاريخية العربية التي تكشف النقاب عن خصائص تطورها وتسلسلها.وبهذا الصدد يذكر ابن عذارى مراسلة لعمرو بن العاص بعث بها إلى الخليفة عمر بن الخطاب يستأذنه في فتح بلاد إفريقيا الشمالية بعدما تيسر له فتح طرابلس، وما كتبه ابن عذارى في ذلك قوله : «وكتب إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يخبره بما أفاء الله عليه من الفتح والنصر، وأن ليس أمامه إلا بلاد إفريقية، وملوكها كثيرة، وأهلها عديدون وأكثر ركوبهم الخيل». ويبدو أن الخليفة عمر بن الخطاب كان على علم بقوة الأمازيغ وشدة بأسهم وبسالتهم في القتال، فلم يوافق على مشروع فتوحات عمرو بن العاص في اتجاه إفريقيا. وقد نقل ابن عبد الحكم رد الخليفة على الشكل التالي: «لا إنها ليست بإفريقية، ولكنها المفرقة، غادرة مغدور بها، لا يغزوها أحد ما بقيت». ونجد عند البلاذري خبرا يفيد نفس المعنى ويؤكد معرفة الخليفة عمر نسبيا بالشؤون الأمازيغية: «فكتب إليه ينهاه عنها ويقول: ما هي بإفريقية، ولكنها مفرقة، غادرة مغدور بها، وذلك لأن أهلها كانوا يؤدون إلى ملك الروم شيئا، فكانوا يغدرون به كثيرا، وكان ملك الأندلس صالحهم، ثم غدر بهم، وكان خبرهم قد بلغ عمر».
وهكذا عاد عمرو بن العاص إلى مصر ولكنه ترك قائده عقبة بن نافع ببرقة التي ستصبح ابتداء من خلافة عثمان بن عفان قاعدة عسكرية للمسلمين ونقطة عبور لعدة حملات تستهدف فتح إفريقيا الشمالية. ويؤكد ابن الأثير من جانبه أن المهمة لم تكن سهلة، وأنه كان على الفاتحين محاربة الكفار من البيزنطيين ومن تحالف معهم إضافة إلى مواجهة القبائل الأمازيغية الصحراوية الثائرة.
وحدث مرارا أن اعتنق بعض الأمازيغ الدين الإسلامي ثم ارتدوا عنه كما يذكر ذلك ابن خلدون. وقد اشتد عود قبائل أوربة تحت زعامة كسيلة بن لمزم إلى درجة أنهم تمكنوا من قتل عقبة بن نافع، لكنهم في آخر المطاف اقتنعوا بفحوى الرسالة الإسلامية واعتنقوا الدين الجديد. كما أن الأمازيغ البتر التفوا حول زعيمتهم المعروفة بالكاهنة، والتي لم تكن يهودية أو نصرانية كما يصورها البعض، وإنما كانت عابدة أصنام تسمى داهية بنت ماتية بن تيغان ملكة جبل أوراس. وقد استطاعت أن تهزم جنود حسان بن النعمان في حملته الأولى، ولكنه استطاع أن يتغلب عليها خلال حملته الثانية سنة 82 هـ. وبالقضاء على الكاهنة وقومها أصبح الإسلام ينتشر تدريجيا داخل المجتمع الأمازيغي، كما أن المواجهات أصبحت أقل عنفا. وبدأت سمات المجتمع الإسلامي تظهر شيئا فشيئا في الأوساط الأمازيغية، وما هي إلا بضع سنوات حتى برزت مدينة القيروان كعاصمة إستراتيجية وروحية للإسلام الغربي. وخلافا لما تناقلته مصادر عديدة، فإن الفاتحين لم يقوموا بإبادة اليهود والنصارى في إفريقيا الشمالية، وإنما خيروهم بين الإسلام والجزية.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة