أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
سبقت الإشارة إلى أن موريطانيا الطنجية لم تتعرض لرومنة عامة على غرار المقاطعات الرومانية الأخرى في شمال إفريقيا، وكان دخول المسيحية إلى تلك المقاطعات بشكل أو بآخر تحت عباءة الروم، ومعلوم أن انتشارها بالمغرب كان محدودا. لهذا فإن شهداء حملات الاضطهاد الموجهة ضد المسيحيين لا يعرف منهم سوى اثنين بالمغرب، كانا جنديين رومانيين تم الحكم عليهما بالإعدام في طنجة في أواخر القرن الثالث الميلادي، كما أن النقوش الجنائزية المسيحية التي تم العثور عليها بالمغرب تعد على أطراف أصابع اليد الواحدة، يضاف إلى ذلك أن الاحتلال الوندالي والبيزنطي للمغرب لم يشمل المساحة الترابية الرومانية سابقا، ناهيك عن تمركزه بها، ولكن مع ذلك كان الأمازيغ المغاربة على اطلاع واسع بمجريات الأحداث الكبرى التي شاركوا في صنع البعض منها. كما أنهم كانوا على علم بطبيعة الدين المسيحي الرسمي وبالانشقاقات التي كانت تعرفها الكنيسة الإفريقية.
وبما أن معظم علاقات المغرب التجارية والثقافية وغيرها كانت بحكم موقعه الاستراتيجي تخضع لهيمنة المسيحية الغربية، فإن مما لاشك فيه أن عددا نسبيا من المغاربة اعتنق دين الغالبين. والسؤال هو: ماذا بقي في أذهان هؤلاء من المسيحية بعد مجيء الإسلام؟ إن ظهور الأمة المغربية بالمفهوم الإسلامي مرتبط إلى حد كبير بالإجابة عن هذا السؤال. ويكفينا هنا رد المؤرخين الغربيين الذين لم يتمالكواأنفسهم في التعبير عن حيرتهم تجاه سرعة اعتناق أمازيغ الشمال الإفريقي قاطبة للإسلام، في حين مكثت المسيحية في ديارهم قرونا عديدة ولم تعرف كل هذا الإقبال، ففي كتاب للمؤرخ الفرنسي جورج مارسي تحت عنوان «الأمازيغ المسلمون والشرق في القرون الوسطى»، ورد تقييم لذلك التحول التاريخي بهذه العبارات: “ففي أقل من قرن واحد اعتنق العدد الأعظم من أبناء أولئك المسيحيين (يقصد الأمازيغ) الإسلام في حماس جعلهم راغبين في اغتنام الشهادة، وقد تمت النقلة بصورة نهائية خلال القرنين الأول والثاني للهجرة أو القرون الثلاثة الأولى غير تاركة من بلاد المغرب سوى بقع ضئيلة، أصبح حتى مجرد الاعتقاد في وجودها أمرا مشكوكا فيه، وبينما كان معظم البلاد التي انتشر فيها الإسلام تحتفظ بطوائف مسيحية، كانت لها مكانة مرموقة في الدولة في بعض الأحيان كما هو الشأن مع سكان جبل لبنان في الشام، والأقباط في مصر، والمستعربين في الأندلس، الذين كانوا يعيشون جنبا إلى جنب مع سادتهم المسلين، فإن وطن القديس أوغسطين(يعني به الجزائر) لم يعرف نظيرا لذلك”.
هذا الانتشار السريع للدين الإسلامي في أقطار الشمال الإفريقي لم يكن ليخفي اضطرابات سياسية أو حتى مذهبية انحرافية، ففي تلك الفترة ظهرت كيانات مستقلة كالأغالبة في تونس والرستميين في الجزائر، وأما في المغرب فقد أسس بنو المدرار دولة لهم بسجلماسة، وأسس بنو صالح دولتهم في نكور والريف، بينما أقام البرغواطيون دولتهم بتمسنا، ويبقى أهم تأسيس لكيان دولة كتبت له استمرارية المشروعية هو بدون شك ذلك الذي تم على يد الأدارسة بفاس.
ويبدو جليا أن النواة الصلبة للأمة المغربية استكملت عناصرها بصفة نهائية إبان حكم الأدارسة والمرابطين، بحيث أن الكيان المغربي الجديد لم يستوعب جوهر الدعوة الإسلامية فحسب، بل إنه بادر إلى إعلان استقلاله السياسي عن المشرق الإسلامي مع الاحتفاظ بثوابت الرابطة الحضارية التي تجمعه به، هذا في الوقت الذي ظل يتشبث بضرورة التواصل مع الغرب، ولكن من تلك الحقبة فصاعدا على أساس الند للند وليس من موقع المضطهد المغلوب، وعليه فإن هذه الخلفية هي التي أصبحت تتحكم في العلاقات المغربية بالعالم المسيحي عموما وبالديانة المسيحية خصوصا.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة