أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
شهدت الديانة المسيحية مع بداية القرن الثالث عشر تحولا استراتيجيا في مواجهتها مع الإسلام، وذلك بعد إحداث تنظيمين كانا يعيشان على الصدقات ويحملان اسم “تنظيمات الصدقة”، والهدف من وراء تأسيسهما هو اختراق المجتمعات الإسلامية البسيطة والتغلغل داخل الشرائح الاجتماعية الفقيرة واستمالتها إلى دائرة العقيدة المسيحية. هذان التنظيمان عرفا فيما بعد بالفرنسيسكان-المشار إليهم سابقا- والدومينكان.
كانت الإستراتيجية المعتمدة تتلخص في إعطاء نفس جديد للكنيسة الكاثوليكية حتى يتسنى لها نشر رسالتها على صعيد عالمي وليس فقط على صعيد العالم الإسلامي حصريا، سيما وأنه بات من الواضح فشل الحروب الصليبية في الانتصار على الإسلام. لذلك كانت طريقة تحقيق هذا المشروع التبشيري الرئيسية هي طريقة الاتصال المباشر السلمي والإقناع الفكري الذي يستمد برهانه من صميم الدين المسيحي. وإذا كان القديس فرنسوا يجسد انطلاقة هذه الحملة الصليبية الفكرية من منظور صوفي، فإن رامون لول عمل كل ما في وسعه على تعزيز جانبها الثقافي دون إلغاء ضرورة استعمال العنف المسلح ضد المسلمين. فهو الذي طالب البابا بدمج كل التنظيمات المسيحية العسكرية في تنظيم موحد لمواجهة الإسلام.
ازداد رامون لول سنة 1235م بجزيرة ميوركة في وسط ارستقراطي مكنه من ربط علاقات مع ملوك واعيان زمانه. ويزعم رامون لول أن أزمة روحية ألمت به سنة 1264م ومكنته على حد قوله من “معرفة الله”، ادعى بعدها أن الإله كلفه بمهمة تنصير المسلمين واليهود، فانهمك على إثر ذلك في دراسة اللاتينية، والعربية، والفلسفة، واللاهوت. وكان العرب يشكلون بالنسبة إليه تهديدا اجتماعيا نظرا لاستيلائهم على جزء كبير من بلده اسبانيا، وتهديدا دينيا لكونهم مسلمين، وتهديدا فكريا يتجلى في مؤلفات ابن رشد التي كان رامون لول يتضايق من إشعاعها على صعيد أوربا المسيحية بأسرها، مما دفعه لدحضها من خلال محاضرات ألقاها بجامعة الصوربون بباريس.
وجه رامون لول نداءات عديدة إلى البابا وإلى الملوك المسيحيين من أجل تنظيم حملة صليبية أشمل وأوسع من الحملات السابقة، وحث على إصدار مرسوم بابوي يرغم البلدان المسيحية على تأسيس مدارس للغات الشرقية يتلقى فيها المبشرون تعليما يساعدهم على تنصير المجتمعات غير المسيحية وعلى رأسها المجتمع الإسلامي. ودعما لهذا المشروع وافق المجمع المسكوني المنعقد بفيينا سنة 1312م على إحداث كراس علمية لدراسة اللغات التالية : العربية، والعبرية، والكلدانية، واليونانية في خمس جامعات أوربية كبرى.
كانت آراء رامون لول منسجمة إلى حد بعيد مع إستراتيجية المذهب التبشيري الدومينكاني الذي أقدم، من جهته، على تأسيس معهد للدراسات العربية الإسلامية بتونس تحت اسم «شتوديوم اربكوم». وتكاملا للمجهودات الفكرية المسيحية الرامية إلى محاربة الإسلام بالحجة والبرهان، طلب رامون بنيافور، وكان مسؤولا عن البعثة الدومينكانية للتبشير بإفريقيا الشمالية، من القديس طوما الاكويني إعداد مؤلف يستعان به في الجدال مع المسلمين. ومعلوم أن القديس الاكويني كان من أكبر فقهاء مسيحية القرون الوسطى. استغرق إعداد المؤلف المطلوب أربع سنوات، وجاء تحت عنوان “ضد الأمم المشركة”، وهو عبارة عن مجموعة من الحجج المأخوذة من مبادئ العقيدة المسيحية بغرض مواجهة فقهاء الإسلام.
وبلغت مؤلفات رامون لول حوالي 250 مؤلفا تدور جل محاورها حول الطابع التوحيدي لما سماه «الحكمة المسيحية». وكان واضحا أن الجدال المسيحي الذي سخره الدومينكان للنيل من صدق ومتانة العقيدة الإسلامية فشل فشلا ذريعا بدليل أن رامون لول نفسه اعترف قبل وفاته سنة 1316م بقليل، حيث قال : “أنا الآن شيخ مسن، فقير حقير وبدون سند. لقد حاولت القيام بعمل يتجاوز طاقاتي بكثير. زرت أقطارا عديدة، وكنت نموذجا في الفضيلة للكثيرين، ورغم ذلك فإنني لست محبوبا ولا حتى معروفا إلا في حدود ضيقة جدا”.
انتهى القرن الثالث عشرالميلادي، وانتهت معه الحملة التبشيرية الحماسية الكبرى، واكتفى الفرنسيسكان والدومينكان أخيرا بمجرد حضور في البلاد الإسلامية يبرره في المقام الأول تواجد جالية مسيحية أصلية أو أسرى مسيحيين في قبضة المسلمين، كما يبرره في المقام الثاني هاجس التنصير الذي ظل يعتبر علة وجودهم.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]