أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور ، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
لم يكن المولى إسماعيل لين العريكة، بل كان في مستوى التحديات التي كانت تهدد مصير البلاد. لذا، فإنه كان يسهر شخصيا على تدبير قضايا المغرب الكبرى، ومن ضمنها قضية الأسرى المسيحيين، لعلاقتها المباشرة بالسيادة، ولكن لم يكن بتاتا ذلك الملك الدموي الذي دأبت الدعاية الأوربية على تقديمه للرأي العام طيلة فترة حكمه التي دامت أكثر من نصف قرن من الزمان. ويبقى السؤال هو: لماذا كل هذه الضجة وهل لها فعلا ما يبررها؟ يبدو أن الجواب كامن في تداخل عناصر ثلاثة من مستويات مختلفة.
أولا على المستوى السياسي: مما لا شك فيه أن الإنجازات التي قام بها السلطان مولاي إسماعيل على صعيد تحرير البلاد من التدخل الأجنبي، إضافة إلى شخصيته القوية، من العوامل التي دفعته إلى التعامل مع معاصريه من ملوك أوربا بنوع من الإقدام والجرأة والثبات. وكان هذا السلوك كافيا لاشتعال نار الحسد وروح العداء في نفوس زعماء أوربا، ومنهم الملك الفرنسي لويس الرابع عشر. فكانوا بالطبع يساعدون على ترويج كل ما من شأنه النيل من سمعة المغرب ومكانته.
ثانيا على المستوى الشعبي: صادفت فترة حكم مولاي إسماعيل الطويلة تطور تيار أدبي مطابق لذوق العصر، أفرزته تفاعلات النهضة الأوربية. وكان هذا التيار يستمد استلهاماته من معاناة الأسرى المسيحيين في البلدان البربرسكية، أي المغاربية. وقد سبق للكاتب الإسباني سرفانطيس أن قضى ما لا يقل عن خمس سنوات في سجون الجزائر، وكتب عن هذه التجربة الأليمة. كما تطرق موليير لنفس المشكلة في “احتيالات سكابان” واهتم بها رينيار ورابلي وفولتير وغيرهم. ويستخلص من ذلك أن الإقبال على كل ما يحيط بموضوع الأسرى المسيحيين بالمغرب كان بدافع تغذية المتخيل الجماعي الأوربي المعادي للمغرب.
ثالثا على المستوى التبشيري: لقد اعتمد الرهبان الرأفاويون على طريقة التهويل والمبالغة المفرطة للتأثير على المجتمع المسيحي في أوربا من أجل مساعدتهم ماديا، وذلك بغية تمكينهم من افتداء الأسرى الموجودين بسجون المغرب. ومن أجل تعبئة التضامن المسيحي كانوا يقارنون معاناة الأسرى بالمغرب بعمليات الاضطهاد الروماني لنصارى الحقبة التاريخية المسيحية الأولى بشمال إفريقيا، ويلجؤون في دعايتهم إلى كل التلفيقات والتشويهات التي من شأنها إلهاب المشاعر، والغاية عندهم تبرر الوسيلة.
وجاء كتاب القبطان الانجليزي برايثويت ليعطى لمشكلة الأسرى المسيحيين في المغرب حجمها الحقيقي، ويفند بالتالي الأقاويل المغرضة بهذا الشأن: “صحيح، يقول برايثويت، إنه في زمن مولاي إسماعيل كان الأسرى في وضع سيء، لكن التقارير المتعلقة بهم كانت تبالغ كثيرا في الحديث عن معاناتهم. في الحقيقة كان الإمبراطور يستعمل عددا كبيرا منهم في بناء قصوره، لكن عملهم هذا لم يكن شاقا أكثر من العمل العادي الذي يقوم به العمال المياومون عندنا. أنا لا أنفى أن هذا الإمبراطور كان يتصرف بقسوة مع الأسرى المسيحيين، ولكنني في نفس الوقت متيقن أن هؤلاء غالبا ما كانوا يستحقون ذلك”. وبعدما توسع في وصف الحياة اليومية للأسرى، ولاحظ أنه لا يوجد بتاتا ما يدعم الأطروحة الدعائية الرائجة في أوربا بشأنهم، خلص إلى ما يلي:
“هذا هو ما نسميه سجنا لا يطاق، هذه هي المعاملات الوحشية التي أحدثت التقارير ضجة كبيرة حولها، فقط بهدف زرع روح كراهية الأتراك والمغاربة”، وتبين للقبطان الانجليزي أن الأسرى يتمتعون بحرية ممارسة دينهم، وأن السلطان رخص لهم ببناء مستشفى، وكان الرهبان الفرنسيسكان مسؤولين عن تدبير هذا المستشفى الذي زاره برايثويت ولم يجد فيه سوى عدد قليل من المرضى، بينما كانت طاقته الاستيعابية تتسع لحوالي مائة مريض.
وأما إحصائيات الأسرى، فقد تم ضبطها بشكل أكثر دقة وموضوعية. كان الأسرى قبل حكم مولاي إسماعيل موزعين أساسا على سجون فاس ومراكش وسلا. ولما اتخذ مولاي إسماعيل من مدينة مكناس عاصمة لملكه، تم جمع كل الأسرى في سجون هذه المدينة التي أصبحت ما بين 1672 و1816 المركز الرئيسي للأسرى المسيحيين بالمغرب. وكان الأسرى الإسبان يشكلون أكبر مجموعة، يليهم من الناحية العددية الأسرى البرتغاليون ثم الفرنسيون.
وفي سنة 1687، كان عدد الأسرى المسيحيين لا يتعدى 1500 أسير، من بينهم 500 من الإسبان. ولكن هذا العدد ارتفع إلى 3000 أسير بعد استرجاع مدينة العرائش يوم 11 نونبر1689، أي بإضافة حوالي 1700 أسير إسباني جديد. وعندما زار الرهبان التابعون لتنظيم الرأفة، مدينة مكناس سنة 1708 لم يكن العدد الإجمالي للأسرى يتعدى 800 أسير يتوزعون كالتالي: 300 إسباني، 200 برتغالي، 150 فرنسيا، 20 ايطاليا، 6 هولنديين. وعندما وصل السفير الإنجليزي الأميرال ستوارت إلى مكناس يوم 3 يوليوز 1721 كان عدد الأسرى كالآتي: 1100 أسير في المجموع يتوزعون على الجنسيات التالية: 300 انجليزي، 400 إسباني، 165 برتغاليا، 152 فرنسيا، 69 هولنديا، 25 من جنوة، و 3 يونانيين.
ولم نعد نعثر على أرقام مثل 36.000 و 40.000 أسير التي كانت الدعاية المغرضة التبشيرية وغيرها تلوح بها. ففي سنة 1627 مثلا، لم يكن موجودا في المغرب بأسره أكثر من ألفي أسير مسيحي. و في عام 1672 يبدو أن عددهم لم يتجاوز 1200 أسير.
وبخصوص ممارسة الشعائر الدينية بكل حرية، فإن الأسرى كانت لهم كنيسة تسمى «سيدة مكناس» اعتادوا ارتيادها ما بين سنة 1693 وسنة 1755. وكان السبب في توقفهم عن الذهاب إليها يكمن في قوة قاهرة طبيعية: إنه الزلزال العنيف الذي هز مكناس يوم فاتح نونبر 1755، والذي شعر به سكان شبه الجزيرة الإيبيرية لشدة قوته. وكان من نتائج هذا الزلزال تحول الكنيسة والمستشفى إلى ركام.
ومهما يكن من أمر، فإن التاريخ الغربي لم ينصف السلطان مولاي إسماعيل فيما يتعلق بمسألة الأسرى المسيحيين، بل أضاف إليها في الحقبة الاستعمارية أضعافا مضاعفة من الأكاذيب والترهات.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]