أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور ، الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
بدأت العلاقات المغربية الفرنسية تتبلور تدريجيا انطلاقا من القرن السابع عشر. ففي يوم 17 شتنبر 1631 توصل مبعوث ريشوليو إلى توقيع اتفاقية مع السلطان مولاي الوليد تم بموجبها إلغاء التعويضات عن الخسائر التي ترتبت عن نزاعات نشبت بين مغاربة وفرنسيين. وبهذا يكون عهد الاتفاقيات بين البلدين قد سجل بدايته الفعلية، ومنذ ذلك التاريخ إلى عام 1912 أبرم البلدان عددا هاما من الاتفاقيات تم التوقيع على أكبر عدد منها خلال القرن التاسع عشر. وظهر بكل وضوح ميل فرنسا إلى القيام بمبادرات جريئة بل دأبت على نهج دبلوماسية تزداد عدوانية سنة بعد سنة، في حين كان المغرب يجد نفسه في موقف دفاعي باحثا عن توازن دبلوماسي لم يعد موجودا.
وأقامت فرنسا قنصليات لها في الموانئ المغربية الرئيسية، وفي سنة 1648 قررت باريس ربط قنصليتي سلا وتطوان بقنصليات الشام تحت إشراف سفارتها بالقسطنطينية (استانبول). ومن ضمن ما جاء في معاهدة 29 يناير 1682، الموقعة بسان جرمان ونلاي والتي تنظم العلاقات الملاحية والتجارية بين البلدين، ما نصه: «كل الأسرى الفرنسيين الموجودين تحت سيطرة إمبراطور مراكش، يمكن شراؤهم بثمن 300 جنيه للفرد الواحد…».
وقد تمت الإشارة في مقال سابق إلى سياسة الند للند التي كان يعتمدها السلطان مولاي إسماعيل مع الملوك الأوربيين، ففي إطار دبلوماسية التعامل بالمثل، كتب السلطان المغربي إلى الملك الفرنسي لويس الرابع عشر بأسلوب لا يخلو من الصرامة وعزة النفس: “القضية الهامة التي نريد معالجتها معكم، هي تلك التي تتعلق بالأسرى الموجودين عندنا قصد إجراء تبادل بيننا: نصراني مقابل لمغربي، رأسا برأس” !.. وكان ممثل لويس الرابع عشر لدى المولى إسماعيل من 1689 إلى 1701 هو جون بابتيست استيل، وهي فترة لم تكن متميزة لا بهدوء دبلوماسي ولا بانتعاش للعلاقات بين المغرب وفرنسا. وبحلول سنة 1718 لم يبق في المغرب إلا قنصل فرنسي واحد، هو بييسر دولاماكدولين الذي تم استدعاؤه في السنة نفسها من طرف فيليب دورليان، ردا «على المضايقات التي يقوم بها سلطان المغرب وقواده ضد التجار الفرنسيين».
وفي يوم 28 مايو 1767 وقع الكونت دوبركون ، بصفته سفيرا للملك لويس الخامس عشر، اتفاقية صداقة بمراكش بين «ملك فرنسا و أمير المؤمنين». وكانت هذه آخر اتفاقية دبلوماسية بين البلدين قبل اندلاع الثورة الفرنسية. ومعلوم أن المملكة المغربية آنذاك لم تستقبل بارتياح أحداث تلك الثورة. بعده مباشرة بدأت فرنسا تعمد إلى ممارسة أسلوب دبلوماسي تدخلي، وقامت بتحويل قنصليتها بطنجة إلى مندوبية، وأصبح ممثلها بالمغرب يلقب تباعا بالقائم بالأعمال، والقنصل العام، والمبعوث فوق العادة، ووزير كامل الصلاحيات. وفي سنة 1823 طلب وزير خارجية فرنسا، شاطوبريان، من السلطان مولاي عبد الرحمان منح بلده امتياز “الدولة الأكثر رعاية”، ولم يحصل على طلبه هذا، لكن خلفه إبان حكم شارل العاشر استطاع أن يحقق الهدف.
والواقع أنه انطلاقا من سنة 1830 تغيرت معطيات السياسة الخارجية المغربية تغييرا جذريا، فباحتلال الجزائر لم يعد للدبلوماسية المغربية الفرنسية نفس المدلول ونفس العمق، اللذين كانا يميزانها نسبيا قبل هذا الانهيار المفاجئ، وهكذا بدا عصر الاستعمار والامبريالية الذي لم تعد فيه المسيحية تحتل مكان الصدارة، وإنما فقط مجرد إشارة إلى الانتماء للرقعة الحضارية، لكنها إشارة سرعان ما استوعبتها الدعاية الكولونيالية من أجل توظيفها قصد تحقيق أهداف مادية غير آبهة بالخلفية الروحية المسيحية بأبعادها الإنسانية.
كان يوم 14 يونيو 1830 هو اليوم الذي تمت فيه عمليات الإنزال العسكرية الفرنسية بسيدي فرج على الساحل المتوسطي الجزائري، وبعد مواجهات استغرقت حوالي أسبوعين دخلت القوات الفرنسية مدينة الجزائر واستولت عليها. وما كان من الجنرال دوبرومون، وزير الحربية الفرنسي، إلا أن يصرح عقب هذا الإنجاز الاستعماري: “عشرون يوما كانت كافية لتدمير هذا البلد الذي أزعج أوربا لمدة ثلاثة قرون”، وفي هذا تهديد واضح لكل بلدان الشمال الإفريقي.
وفعلا، كان الإعلان عن سقوط الجزائر بالنسبة للمغاربة بمثابة الصاعقة، ولم يترددوا لحظة واحدة في تقديم الدعم والمساندة غير المشروطة للشعب الجزائري في مقاومته للاستعمار الفرنسي الغاشم، ولذلك كان طبيعيا أن يجد الأمير عبد القادر ما كان ينتظره من المغاربة من مؤازرة مادية ومعنوية. لقد تعالت الأصوات والنداءات في المساجد والأسواق، وفي المدن العتيقة وداخل الدواوير، مطالبة بتنظيم الجهاد ضد الكفار وإبعادهم عن أرض الجزائر الإسلامية الطاهرة. وبلغ غضب المغاربة ذروته يوم 14 غشت 1844، حيث جرت مواجهات دامية بين أفراد الجيش المغربي والقوات الغازية الفرنسية بإسلي. وقامت بوارج حربية فرنسية يومي 15 و 16 غشت بقصف مدينة الصويرة، وقبلها تم قصف مدينة طنجة يوم 6 غشت! إنها الانتكاسة …
كان الإعداد الفني والحربي للقوات المغربية إعدادا ضعيفا جدا، بل إن هذه القوات في حد ذاتها لم تكن تشكل جيشا نظاميا بمعنى الكلمة. وكانت المؤسسة العسكرية المغربية في واقع الأمر تعبيرا صارخا لما راكمه المغرب من سنوات الانحطاط الحضاري والتشرذم الاجتماعي والعبث السياسي.
وفى جو كانت تسوده مرارة الفشل، وقع المغرب على معاهدة “سلام” بتاريخ 10 شتنبر 1844 بطنجة. والمعاهدة في حد ذاتها لم تكن سوى نسخة طبق الأصل لمضمون رسالة شديدة اللهجة سبق لفرنسا أن وجهتها للمغرب بتاريخ 12 يونيو 1844، وذلك على إثر قيام القوات المغربية بصد هجوم فرنسي يوم 30 ماي1830 داخل التراب الوطني. وركزت الرسالة المذكورة على أربع نقاط، هي:
ا . التزام المغرب بعدم القيام بأي عمل دفاعي داخل الأراضي التي استولت عليها فرنسا.
2 . تفكيك القوات المغربية المرابطة في مدينة وجدة وكذلك تلك المتواجدة بالقرب من المراكز العسكرية التي أقامتها فرنسا على نقاط اعتبرتها بمثابة حدود مفروضة على المغرب.
3. إقالة قائد وجدة وعدد من رجال السلطة المغاربة.
4. طرد الأمير عبد القادر من المغرب.
وكان واضحا من هذه الإملاءات الأربعة أن فرنسا مصرة على تصعيد عملياتها العدوانية على مغرب أصبح قاب قوسين أو أدنى في خبر كان. وهو ما سينعكس لا محالة على آفاق التواجد المسيحي بالبلاد، لكن هذه المرة عبر حركة استيطانية همجية مباشرة وليس عن طريق التبشير الإقناعي التقليدي.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]