أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور ، الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
لم يكن الجنرال ليوطي مجرد أول مقيم عام للجمهورية الفرنسية بمغرب الحماية فحسب، بل كان يعد العقل المدبر لكل تفاعلات المشروع الكولونيالي، وبالتالي كل التطورات التي عرفها الاستعمار الفرنسي في مواجهته مع المغاربة قبل وبعد التوقيع على معاهدة الحماية بفاس يوم 30 مارس 1912. ولم يفت أي مقيم عام فرنسي جاء من بعده أن يستنير بنهجه الكولونيالي، ويحاول ولو عبثا أن يستنجد بأفكاره الاستعمارية الماكرة.
لقد عينت الجمهورية الفرنسية الجنرال ليوطي على رأس إقامتها العامة بالرباط في أبريل 1912، مع احتفاظه بمنصب القائد العام لقوات الاحتلال بالمغرب. وانسجاما مع مقتضيات تلك المعاهدة الجائرة، تفنن ليوطي في تظاهره باحترام مقدسات البلاد وفي مقدمتها الإسلام. وبما أن سلطان المغرب كان يجسد رمز المشروعية، فإن الجنرال ليوطي جعل منه حصان طروادة لنهجه الدعائي القائم على “الاختراق المتستر” المضلل، كما اتخذ منه مسوغا قانونيا باطلا من أجل مواصلة سياسة ما أسماه ! ب”التهدئة”. تلك “التهدئة” التي كانت بكل تأكيد مجرد تلطيف دعائي لحرب ضروس دامت حوالي ثلاثين سنة، شنتها قوات الاحتلال على مكونات الشعب المغربي قاطبة.
وفي المجال الديني بالتحديد كانت استراتيجية ليوطي تعتمد على الظهور بمظهر “صديق” الإسلام، بل و”حامي” للدين الإسلامي وفقا لما جاء من “إصلاحات” تمت الإشارة إليها في معاهدة فاس، والتي تعهدت الدولة “الحامية” للمغرب بإنجازها. وقد اجتهد ليوطي في توسيع تأويله لهذه “الإصلاحات” الكاذبة روحا ونصا. وأما بالنسبة للديانتين الأخريين، اليهودية والمسيحية، فإن ليوطي كان على قدر كبير من اللباقة والحذر، لأنه كان يعلم أن من شأن أي مغالاة في الدعاية المسيحية أو اليهودية أن تثير غضب الإسلام، سيما وأن عمليات “التهدئة” ما زالت في بدايتها، وحتى يتسنى له ضبط الدعاية الكاثوليكية، انشغل ليوطي بإيجاد حل لمسألة الفرنسيسكان الإسبان المتواجدين داخل المنطقة الفرنسية. وهكذا جاءت المعاهدة الفرنسية الاسبانية، بتاريخ 27 نونبر 1912، لترسم الإطار الملائم لمنظور ليوطي، حيث نصت مادتها الثامنة على ما يلي: “تتعهد حكومة صاحب الجلالة ملك اسبانيا، فيما يخصها، على القيام بكل ما من شأنه أن يضع حدا لاستمرار الامتيازات التي يتمتع بها حاليا الأكليريوس الاسباني القانوني وغير القانوني في المنطقة الفرنسية، غير أنه في هذه المنطقة بالذات تحتفظ الإرساليات الاسبانية بمؤسساتها وممتلكاتها الحالية، ولا تعترض حكومة جلالة ملك اسبانيا على تعيين رجال الدين من جنسية فرنسية بها.
ويعهد إلى رجال الدين الفرنسيين الإشراف على المؤسسات الجديدة التي تؤسسها هذه البعثات”. وبناء على هذه المعاهدة أصدر رئيس الجمهورية الفرنسية، يوم 5 مايو 1913، مرسوما منظما لهيئة الإرشاد العسكري وطبيعة نشاطها داخل الجيش. وفي هذا السياق أبرق وزير الحربية للجنرال ليوطي موضحا: “إن الرهبان، سواء تعلق الأمر بأولئك الذين يقدمون مساعفات دينية لجنود قوات الاحتلال داخل الثكنات أو ضمن الأرتال، يجب أن يخضعوا مسبقا لموافقتكم”. وبهذا يكون الجنرال ليوطي قد وضع الإطار القانوني لنشاط عناصر الدعاية الكاثوليكية، وضبط تحركاتها ليس فقط داخل الحاميات العسكرية بل كذلك داخل المجتمع الأوربي الناشئ وفي أوساط الأهالي المغلوبة على أمرها.
وأما بالنسبة للدعاية الصهيونية التي كان يقودها في بادئ الأمر ناحوم سلوش، فإن ليوطي لم يمنعها وإنما طلب من مؤطري اليهود المغاربة أن يلتزموا السرية والحيطة، وذلك بهدف المحافظة على الأمن العام بالمفهوم الاستعماري، وانكب ليوطي على وضع الإطار القانوني للمؤسسات اليهودية والذي كان يتماشى ونظام الحماية، وكان الزاكوري هو مستشاره الخاص في كل ما يتعلق بقضايا الطائفة اليهودية المغربية.
ومع نهاية 1916 كانت منطقة الحماية الفرنسية موزعة إلى عشرة مراكز للإرشاد الكاثوليكي التابع لجماعة الفرنسيسكان الفرنسيين، وهذه المراكز هي: الدار البيضاء، مراكش، مكناس، فاس، قصبة تادلة، وجدة، بركان، تاوريرت، كرسيف. ومع بداية العشرينيات كان الاكليريوس الفرنسي يشرف على أكثر من أربعين كنيسة تم بناؤها في منطقة الاستعمار الفرنسي التي كان يطلق عليها اسم المنطقة السلطانية. وجاء تقرير أعدته لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية (البرلمان الفرنسي) وقدمه النائب موريس باريس في جلسة 4 فبراير 1924، فقرة تؤكد بكل وضوح على تعزيز العمل التبشيري وانتشاره بالمغرب : «إنه من الضروري، وعلى سبيل دعم التغلغل الفرنسي أن تؤسس مراكز تبشيرية في كل من: وزان، سوق الأربعاء، مشروع بلقصيري، سيدي سليمان، واد زم، خريبكة، بن احمد، سطات، برشيد، وأكادير”. وارتفع عدد المبشرين الفرنسيين إلى حوالي 200 راهب، تمثل الراهبات من ضمنهم أكثر من النصف، وينضاف إلى هذا العدد الرهبان الإسبان الذين لم يغادروا المراكز الساحلية (أسفى والجديدة). وانطلقت حركة تأسيس المدارس المسيحية، ومن بينها مؤسسات تحمل اسم المستكشف الجاسوس شارل دو فوكو،
كما أحدثت مؤسسات اجتماعية وطبية عديدة، وكانت كلها تحت إشراف وتدبير هيئات التبشير. وتأسست سنة 1921 مجلة “المغرب الكاثوليكي” التي كانت بمثابة المنبر الرسمي للكاثوليك الفرنسيين بالمغرب. وبدا جليا من توجهات رجال الكنيسة الفرنسيسكان اعتمادهم على المنهج التبشيري العدواني المباشر، ولم يعودوا قادرين على كتمان سر طالما سكن ذاكرتهم وأجج مشاعرهم الصليبية.
وباستقالة ليوطي في أكتوبر 1925، كنتيجة لإخفاقه في “تهدئة” الانتفاضة الريفية بزعامة عبد الكريم الخطابي، أطلق الكاثوليك العنان لدعايتهم التنصيرية مستهدفين كل شرائح المجتمع المغربي.
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]