أعده للنشر: عماد مجدوبي
يتطرق الدكتور ، الطيب بوتبقالت أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في هذه السلسلة من 30 حلقة، إلى أهم المحطات التاريخية التي ميزت العلاقات المغربية-المسيحية منذ العهد الروماني إلى متم القرن العشرين. ويبقى الهدف هو مجرد مساهمة متواضعة في إغناء البحث التاريخي المغربي بغية تعزيز مقومات هويتنا الوطنية.
لم يكن استقلال المغرب يعني اضطهادا للمسيحيين، ولم تعقبه أية مطاردة للرهبان والراهبات المتواجدين في مناطق مختلفة من البلاد. بل على العكس من ذلك حظي رجال الدين المسيحيين، كما حظيت الكنائس، باحترام المواطن المغربي، وكان بالنسبة للكاثوليك عهدا جديدا وجب التأقلم مع معطياته. وأما بالنسبة للسلطات المغربية فقد عبرت بكل وضوح عن نيتها في دعم التواصل السلمي مع الديانة المسيحية، حيث قام جلالة المغفور له محمد الخامس بتوشيح صدر الأسقف الفرنسي أميدي لوفيفر تقديرا لمواقفه النزيهة تجاه القضية الوطنية في السنوات الأخيرة من عهد الحماية.
وبموجب مرسوم بابوي بتاريخ 14 نونبر 1956، تم اعتبار مدينتي الرباط وطنجة بمثابة مقرين رئيسيين لأسقفيتين كاثوليكيتين بالمغرب، تابعتين مباشرة للفاتيكان. وكان طبيعيا أن يصبح عدد كبير من الكنائس معطلا أو حتى مهجورا نهائيا، بعد مغادرة الجاليات الأوربية التراب الوطني بصفة تدريجية وسلمية على إثر استقلال البلاد. ففي المنطقة الشمالية بلغ تعداد الأوربيين الكاثوليك سنة 1956 حوالي 130000 كاثوليكي معظمهم من الإسبان. وكانوا موزعين على ما يناهز ستين كنيسة أو مركزا دينيا تابعا للمؤسسات المسيحية ، بينما ارتفع عدد أفراد الاكليروس إلى حوالي 600 إكليركي قانوني. وقد تأثرت الكنيسة في المنطقة الشمالية بمجمل الأحداث التي عرفتها الكنيسة في اسبانيا، كانعكاس نظام الملكية عليها، وسياسة الجمهورية العلمانية، و التأثير الذي نجم عن التيار الوطني الكاثوليكي الإسباني. وتجدر الإشارة إلى أن الكنيسة في الشمال المغربي كانت تشرف على نشر مجلة «موريطانيا» ما بين 1928و1963.
وهي مجلة تعد مصدرا هاما بالنسبة لتاريخ المسيحية بالمغرب، إضافة إلي معطيات مختلفة تتعلق بالأحداث التي شهدها المغرب خلال تلك الفترة. ومعلوم أن المسيحيين الإسبان لم يكونوا متحمسين لسياسة “تنصير البرابرة” التي أدت إلى صدور الظهير البربري المعروف، وأما في المنطقة الجنوبية فقد بلغ تعداد الكاثوليك بها مع نهاية الحماية حوالي 500.000 كاثوليكي، وتجاوز عدد أفراد الإكليروس الألف اكليركي، من بينهم 122 أسقفا. وأما الكنائس والمراكز الدينية الكاثوليكية، فإن عددها تعدى المائتين. وفي نهاية القرن العشرين كان يوجد بالمغرب حوالي 400 راهب وراهبة قانونيين. موزعين على خمس مناطق رعوية تابعة لأسقفية طنجة، وهي: منطقة طنجة-أصيلة، ومنطقة العرائش-القصر الكبير، ومنطقة تطوان- مرتيل – الفنيدق ومنطقة الحسيمة ومنطقة الناظور- دار دريوش. وعلى أربع جهات رعوية تابعة لأسقفية الرباط وهي: جهة الرباط- القنيطرة، جهة الدار البيضاء (الجديدة، المحمدية، بني ملال، خريبكة، والدار البيضاء)، والجهة الجنوبية (مراكش، أسفي، الصويرة، ورزازات، اكويم، تازارت، اكادير، تارودانت)، والجهة الشرقية (فاس، تازة، مكناس).
وعلى الصعيد الرسمي، توجد علاقات دبلوماسية قائمة بين المملكة المغربية وحاضرة الفاتيكان، وكل المؤشرات تدل على مستواها الجيد والمثمر، ليس بالنسبة للتعايش الديني أو الحوار الإسلامي المسيحي فحسب، بل كذلك فيما يتعلق ببعض القضايا الدولية الشائكة وعلى رأسها قضية القدس، وستظل الزيارة الرسمية التي قام بها المغفور له الملك الحسن الثاني للفاتيكان يوم 2 أبريل 1980، والزيارة الرسمية التي قام بها قداسة البابا جون بول الثاني للمغرب يوم 19 غشت 1985، من أبرز المحطات التاريخية التي سجلتها العلاقات المغربية- المسيحية في القرن العشرين.
ورغم كون المادة 220 من القانون الجنائي المغربي تنص على معاقبة العمل التبشيري بشتى مظاهره في أوساط مغربية مسلمة، إلا أن واقع الأمر يشير إلي تسامح السلطات المغربية، أو على الأقل تغاضيها عن إيلاء اهتمام كبير لهذه المشكلة الحساسة نظرا لانعكاساتها السلبية على مستوى علاقات المغرب الدولية.
وعموما، فإن القرن الواحد والعشرين سيكون دينيا أو لن يكون. والواقع أن هذه المقولة الشهيرة للكاتب الفرنسي أندري مالرو تتناقض مع انتمائه لمذهب اللأادرية و ابتعاده عن المشاعر المسيحية بمفهومها المتداول ، لكنها مقولة أثارت انتباه كثير من دارسي اللاهوت والمستقبليات. لقد مات مالرو سنة 1976، ونحن اليوم في بداية القرن الواحد والعشرين، وليس هناك ما يدعو لتفنيد مقولته، فلا الحداثة، ولا العولمة، ولا ثورة التكنولوجيا المعلوماتية العارمة بوتيرتها المتسارعة، والتي فتحت عهد ما بعد الحداثة وحلول ما يسمى ب «الواقع الافتراضي» و«العالم الافتراضي» وربما «الإنسان الافتراضي»…
كل هذه التحولات العميقة، وما تمخض عنها من تطبيقات خطيرة في مجالات حيوية مختلفة، تبدو عاجزة تماما عن إلغاء وظيفة الاعتقاد الديني بشتى مشاربه وتلويناته. إنه على ضوء أحداث العالم المعاصر يتضح أن المقولة الجديدة التي يجب أن تكون شعارا للبشرية جمعاء هي: «إما أن نتواصل سلميا وإما أن نندثر كليا». ويبين حوار الأديان على أن هناك تقاطعات كثيرة وقواسم مشتركة بينها، ليس فقط على مستوى التعامل الثقافي والسياسي، بل كذلك حتى على المستوى الديني المحض. إلا أن المسألة تقف عند حد المستحيل عندما يتعلق الأمر بتوحيد جوهر العلاقة التي تربط الإنسان بالدين كيفما كان. وهنا يجب تصحيح المفاهيم : لا أحد ينفي مدى الضرورة القصوى لمنظومة “حقوق الإنسان”، لكن عندما تتطرق المادة الثامنة عشرة من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لمسألة الحرية الدينية. فلا يجب أن يكون ذلك من منطلق مسلمات المركزية الغربية بمفردها، بل يجب الانفتاح على الظاهرة الطبيعية للتنوع الثقافي وما يستوجبه ذلك من احترام للمعتقدات.
وإلا فما هو المدلول الحقيقي لشعار «الحق في الاختلاف» الذي رفعته الحضارة الغربية في عنفوان تطورها الليبرالي؟ إنه ما من شك أن قضايا كثيرة عرفها العالم في السنوات الأخيرة، جعلت الخلفية الدينية تحتل الصدارة على صعيد العلاقات بين الشعوب والثقافات، إما بشكل تلقائي لا شعوري وإما بشكل دعائي محبوك: القضية الفلسطينية، الحرب الخليجية، الحرب البوسنية، الحرب الشيشانية، الحركات الإسلامية بغثها وسمينها، قضية سلمان رشدي، قضية الحجاب الإسلامي، قضية الرسوم الكاريكاتورية، الخ. كل هذه القضايا تؤكد بإلحاح على ضرورة نشر ثقافة السلام واحترام كرامة الإنسان أيا كان منهجه في الحياة. وليس في الديانات السماوية ما ينفي هذا الطرح. والآية القرآنية تشير إلى أن الناس خلقوا من ذكر وأنثى وجعلهم الله شعوبا وقبائل ليتعارفوا، بمعنى ليتواصوا سلميا. وأي تأويل خارج عن هذا النطاق سيكون عبثيا لا محالة ! إن هذه هي الخلفية التي يجب أن تكون عليها العلاقات بين الديانات والثقافات. بعيدا عن كل تعصب أو تطرف، لكنها تخرج عن منطق كتابة التاريخ…
الدكتور الطيب بوتبقالت
أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال
بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة
[email protected]