الرباط-متابعة
دأباً على مسار البحث والتقصي الأنثربولوجي والسوسيولوجي، يواصل الباحث المغربي د. عياد أبلال دراسته لتحولات العالم العربي على المستوى الاجتماعي، مبرزاً أهم التحديات التي تواجه مجتمعاتنا على مستوى الأفراد والمؤسسات، وإذا كان الباحث قد تناول في كتب سابقة حجم الإخفاق الاجتماعي الذي تعانيه المجتمعات العربية والإسلامية، فإنه انتقل اليوم إلى دراسة الثورات الكامنة في عمق الرابط الاجتماعي على الصعيد الجنسي والجنساني والديني، وذلك من خلال كتابه الصادر مؤخرا عن المركز العربي للكتاب ببيروت:” الرابط الاجتماعي والتحولات الجنسانية والدينية في العالم العربي، من الإخفاق إلى الثورة”، وهو الكتاب الذي يعالج من خلاله أهم الظواهر الاجتماعية والأسرية المرتبط بما بات يعرف بالانفجار الجنسي والجنساني والديني في زمن الصورة وشبكات التواصل الاجتماعي.
ويرصد الباحث بحرفية وتمرس أكاديميين مختلف الظواهر الاجتماعية التي يتمظهر من خلالها الإخفاق الاجتماعي، عبر إبراز العوامل والأسباب الكامنة وراء أهم الظواهر الاجتماعية التي باتت تؤرق بال المجتمعات العربية، على المستويين الشعبي والرسمي، منطلقاً من الرابط الاجتماعي كأداة تحليلية لمختلف الظواهر والقضايا، لاستخلاص أهم التحولات الجنسانية والدينية التي تعرفها اليوم المجتمعات العربية.
الكتاب ينقسم إلى بابين، تناول في الباب الأول: ” الرابط الاجتماعي والتحولات الجنسانية والدينية” عدداً من القضايا والإشكاليات ذات الصلة، من خلال تشريح الجنسانية في الثقافة والاجتماع الغربيين، وكيف تأثر العالم العربي بالجسدانية والجنسانية الغربيين، في ظل جمود المدونة الفقهية والثقافية العربية بشكل عام أمام هول التحولات والتحديات. معلناً أمام ما وصلت إليه الجنسانية الغربية من أمراض واضطرابات نتيجة فصل الدين عن الأخلاق، وفصل الجسد عن الروح، يحتم على المستوى العربي إعادة النظر في التأثر والاستلاب اللذين يهيمنان عن النسق الجنساني العربي.
كما استخلص أن التمثلات الاجتماعية الذكورية حول المرأة لا تنفصل عن منظومة فكرية عربية أساسها الحكم الجاهز والمسكوك بخصوص المراة/الجنس/الشبق، وهي في ذلك لا تنفصل عن القراءة الذكورية الأيدولوجية والأصولية للنص الديني في ارتباطها بالفهم الميثولوجي السابق عن الإسلام، إذ أن التحولات الجنسانية قد ترافقت في العمق مع التحولات الجسدانية تأثراً بالغرب في تتجير الجسد وتسليع اللذة والرغبة الجنسيين، خاصة فيما يتعلق بالمرأة. ولذلك، فرصد تحولات الرابط الاجتماعي بخروجه عن الباردايم المتعارف عليه في الجنسانية التقليدية عربياً، لا يستقيم إلا باستحضار ما حصل للجسد في الغرب من تحولات.
هكذا، إذن، وتأسيساً على ما سبق، قام الباحث المغربي بدراسة وتحليل مختلف العوامل الاجتماعية والجنسانية المتحكمة في طبيعة العلاقة بين المرأة والرجل في المجتمعات العربية، خاصة وأن حتمية التغيير المجتمعي جعلت تجليات هذه الجنسانية، تعرف تحولات اجتماعية وثقافية مهولة، برزت من خلالها خطاطة تواصلية جديدة بين الجنسين، كانت بحق الخلفية الاجتماعية لظهور أشكال اقترانية معاصرة: (التساكن، والزواج بدون عقود، والزواج المختلط، والأمهات العازبات…)؛ حيث استوى الزواج كما هو متعارف عليه اجتماعيًّا مجرد شكل من أشكال إضفاء طابع الشرعية الدينية على الجنس، باعتبار هذا الأخير طاقة بيو-ثقافية أصبحت في توترها الكامن معضلة تتهدد العالم العربي بالانفجار، بدأنا نشهد اليوم إرهاصاته الأولى من خلال الثورة التي بات الجسد يعرفها في ظل زمن الصورة.
في هذا السياق، يأتي الإخفاق الاجتماعي، وعلى كافة المستويات في مقدمة العوامل المولدة لهذه الأشكال الاقترانية الجديدة، فمن الزواج بدون عقود، كعنوان بارز للحق في الجنس، إلى الزواج المبكر، والزواج المختلط بالأجانب من الغربيين، الذين يعلنون إسلامهم شكليًّا لتتمة إجراءات الزواج قانونيًّا، تنبجس مفارقة قوية بين الدين في بُعْده التشريعي الثابت، والواقع الاجتماعي في تحولاته المتجددة والمستمرة، بما يضمر ذلك من نقاش فقهي مُغَيب حول النقص الحاصل في الجنسانية العربية على ضوء الإسلام السني.
في إطار المفارقة نفسها، حاولت مدونة الأسرة الجديدة بالمغرب وتونس تفادي بعض تمظهرات هذه المفارقة من خلال اعترافها الضمني بالأمهات العازبات، اللائي أصبح من حقهن انتزاع الهوية الشرعية لأبنائهن من خلال اسم الأب البيولوجي، وهو ما يشكل اعترافًا ضمنيًّا بتحولات الواقع الاجتماعي، لكن بالرغم من ذلك، تبقى هذه الخطوة الجريئة من لدن المشرعين المغربي والتونسي في حاجة ماسة لاجتهادات أخرى أكثر جرأة، لتجاوز جمود المقاربة الدينية لأشكال الاقتران بين الجنسين، خاصة في ظل التحولات الثقافية والاجتماعية المهولة التي بتنا نعيشها اليوم.
فإذا كانت هذه الأشكال الاقترانية الجديدة تشكل ملامح التحول السوسيو-ثقافي المستمر، فإن مؤسسة الزواج في حد ذاتها لم تعد كما كانت في ظل اقتحام المرأة للفضاء العام، الذي كان حكرًا على الرجل، مما عجل بهدم مفهومي القوامة والفحولة المتخيلة؛ إذ أصبح راتب الزوجة ومشمول ممتلكاتها من أبرز المعايير المتحكمة اليوم في الزواج. وبالنتيجة، تحولت الأسرة من مؤسسة اجتماعية إلى مؤسسة اقتصادية، وهو ما حاول الباحث إضاءته من خلال رصد هذه التحولات وكشف الذهنية الجديدة للرجل، الذي، بالرغم من ذلك، لم يستطع التخلص من فحولته المتخيلة، التي تربط بشكل تعسفي بين المرأة والشبق/الجنس؛ إذ ينتصب الصراع والعنف الأسري كواقع لا يمكن تجاوزه، وهو ما حوَّل مؤسسة الزواج إلى معادل موضوعي للهم والغم والبؤس عند الشباب.
من هنا حاول الكتاب تشريح خلفيات وتجليات العنف بين الزوجين، والجمود العاطفي الناتج عن عدد من العوامل، من خلال تبيان شبكة محدداته ومسارات تجاوزه عبر تفصيل الباحث التحليلي للجسد العاطفي والجسد الشبقي، كمفهومين يشكلان في واقع الأمر جزءًا لا يتجزأ من منظومة ذات حساسية ملتهبة، تتأسس على الجنس المقموع.
وبما أن تفكيك طابو الجنس/الجنسانية على مستوى العلاقات الاقترانية الثنائية في الفضاء العام، كما هي الحال بالنسبة إلى الفضاء الخاص، يقتضي رصد هذه القضايا والإشكاليات المرتبطة نظريًّا بالإخفاق الاجتماعي من جهة، وبمجموع التحولات السوسيو-ثقافية والاقتصادية والسياسية، التي بات العالم العربي يعرفها اليوم في ارتباطه بالغرب من جهة أخرى. فإن الباحث رصد تحليليًّا تمظهرات هذه التحولات في الفضاء الأسري، وتعميقًا لهذا الرصد، قام بمقاربة الحمَّام الشعبي مقاربة أنثربولوجية تأويلية رمزية مستخلصاً أهم مفاصل هذه التحولات، التي كان موضوعها الجسد الأنثوي، وهي مفاصل تشكل في العمق التعالق المتوتر دومًا بين الاجتماعي والديني.
أما في الباب الثاني: ” تحولات الرابط الاجتماعي من الاخفاق إلى ثورات الربيع العربي”، فقد رصد الباحث تجليات هذا الإخفاق على مستوى المعيش اليومي، من خلال عدد من القضايا ذات الارتباط بهذا المحور، بحيث تناول الظواهر الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالدين في تطبيقاته الشعبية المتعددة، التي تجعل من الإسلام الأورطودكسي مجرد حلم يوتوبي مستحيل التحقق؛ إذ كما تقر الدراسات الأنثربولوجيا بذلك، ليس هناك إسلام واحد بقدر ما هناك “إسلامات”، أي أن هناك اختلافات اعتقادية وطقوسية في التطبيقات، كما أن هناك اختلافات في التمثلات الاجتماعية الدينية من منطقة إلى أخرى، ومن دولة إلى أخرى.
إن التحولات الاجتماعية والثقافية المرتبطة بالإخفاق الاجتماعي، في زمن العولمة، باتت تشكل أبرز تحدٍ يواجه الأنظمة العربية، خاصة على مستوى الإسلام السياسي. ضمن هذا الأفق، رصد الكتاب تحولات الذاكرة الجماعية وتأثيرها على التدين، مثلما قارب تطبيقاته الشعبية من خلال السحر والشعوذة، وزيارة الأضرحة والمزارات… مبرزاً ارتباط هذه التطبيقات بممارسات شعبية تعتمد على أسس خرافية لا تنفصل عن الوثنية.
وفي سياق انفجار الرابط الاجتماعي، قام الباحث بدراسة وتحليل مختلف أشكال العنف، كتجلٍّ للخطاب التنازعي الذي أصبح سمة التواصل الاجتماعي، نتيجة احتدام حدة الإخفاق الاجتماعي، حيث باتت مساحة العنف تتسع يومًا بعد يوم، محدداً خلفيات ومرجعيات مختلف أشكال العنف المهيمنة، مدركاً أن العنف بناء يتبلور على مستوى الأسرة، والمدرسة، وكافة مجالات الجمعنة (التنشئة الاجتماعية)، بما في ذلك التلفزة، وكافة وسائل الاتصال الجماهيرية، فعلى مستوى الأسرة، رصد عياد أبلال العنف الأسري المتولِّد من رحم التحولات القيمية والاجتماعية، كما تطرق إلى اغتصاب الأطفال(بيدوفيليا)، باعتبارها ظواهر ترتبط بالجنسانية المغلقة، كما تناول بالدراسة والتحليل جرائم الدم، وهي جرائم تشكل خطورة كبيرة تتهدد المجتمعات العربية عامة. وإذا كان العنف يُعْدِي بتعبير روني جيرار، فإن هذا العنف ينشأ بسيطًا، ليتحول وفق صيغ وأشكال تأتي على الأخضر واليابس، محولاً الأمن إلى خوف ورعب، فإن الباحث تناول بالتحليل خلفيات وتجليات العنف في الملاعب الرياضية، من منطلق أن الملعب هو مسرح للإخفاق الاجتماعي والصراع المقنَّع، لينتقل إلى العنف الطلابي بالجامعات، كشكل من أشكال العنف ضد/حول السلطة، وكمشتل للعنف المؤدلج؛ دون أن ينسى الإشارة إلى الاستعداد الأوَّلي المكتسب لممارسة العنف على مستوى الذات، ارتباطا بالجنسانية في علاقتها بالجسدانية وتحولاتهما، وهيمنة قيمة المال على قيم العمل، والاستحقاق، والجهد، وقيم التعايش السلمي.
وقد تتبع الكتاب تضخم مستويات الإخفاق السياسي والثقافي والاقتصادي وتوترات الرابط الاجتماعي في إطار انتقال العنف من مستوياته البسيطة إلى مستوياته المعقدة، حيث قام بتحليل الصراع والانحراف والجريمة في علاقتها بالسلطة، التي اعتبرها مستويات ودرجات أقصاها السلطة السياسية والحكم، وأدنها القدرة على تلبية متطلبات الأنساق المشكلة للفعل الاجتماعي، والتي تتجلى في قدرة الفرد على تلبية حاجياته ومتطلباته الاجتماعية والثقافية والسوسيو اقتصادية، من أجل تحقيق الاندماج المجتمعي، وبما أن المجتمعات العربية لم تعد تعيش حالة التوزان النموذجية، فقد استعان الباحث بإطار نظري يستلهم إوالياته التحليلية من نظرية الصراع عند كوزر ودراندروف، باعتبار هذه النظرية أهم إضافة سوسيولوجية للنظرية الوظيفية المغرقة في التوازن، خاصة وأن المجتمع على ضوء هذه الظواهر يكون بالفعل قد انتقل من حالة التوازن إلى حالة اللا توازن، ولو أن الحالة الأولى تبقى هي الملحوظة، في حين تظل الثانية في حالة كمون، وهو كمون مستعد للانفجار حسب درجة ووتيرة هذا العنف، الذي يعد منظومة قيمية واستراتيجية للهيمنة على السلطة والحكم عند الحركات الإسلاموية التكفيرية، وهو ما جعل الباحث يستعرض أسباب ظهور حركات الإسلام السياسي، وعوامل إخفاقها، وبروز التطرف والغلو والإرهاب، وهو ما قاربه من خلال توظيف مفاهيم وآليات تحليلية تجمع بين الوظيفية والتأويلية في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والفلسفة. وبما أن الإخفاق حينما تتضخم مستوياته تقود إلى انفجار الأنساق، فقد تناول الباحث علاقة الاخفاق الاجتماعي بالثورة من خلال رصد خلفيات ومرجعيات الربيع العربي، وكيف حضر الجسد العربي كمحلال سوسيولوجي من خلال الاحتجاج، مبرزا أنه من الصعب فصل الجسد العربي في تحولاته وانفجاراته الصريحة والكامنة عن الدين وعن الجنسانية.