إعداد-أسامة بلفقير
للسنة الثانية على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات المسألة الأمازيغية تحت وطأة المخططات الاستعمارية. إذ يحتل الاهتمام بالأمازيغية – لغة وثقافة- مكانا بارزا ومتميزا في عهد الملك محمد السادس، وذلك ليس بهدف رد الاعتبار لهذا المكون الأساسي من هويتنا الثقافية والحضارية فحسب، بل استنهاضا وتعزيزا لمختلف روافد الهوية المغربية التي عانت الأمرين قبل وخلال الحقبة الاستعمارية المعاصرة. لذلك يسعى الدكتور بوتبقالت إلى نشر المعرفة التاريخية، في ظل ما يسود الاعتقاد به عند المثقفين عموما، بل حتى عند بعض الباحثين المتخصصين، أن الحديث عن المسألة الأمازيغية إبان عهد الحماية إنما يعني أساسا ما يعرف إعلاميا بالظهير البربري الصادر بتاريخ 16 مايو 1930، وهو ما يعتبره بوتبقالت اعتقادا خاطئا، لأن ظهير 1930 لم يكن في الواقع إلا تتويجا ونتيجة حتمية لمسلسل بدأت الإيديولوجية الكولونيالية في رسم حلقاته منذ أمد بعيد. وهو ما يسعى إلى تبيانه الدكتور الطيب بوتبقالت في هذه السلسلة من 30 حلقة.
التاريخ المغربي
من السذاجة بمكان الارتكان إلى الراحة التأملية التي تعتبر التجارب والدروس التاريخية مجرد سلسلة أحداث طواها الزمن إلى غير رجعة، بحيث أننا ننظر إليها من زاوية تجعلنا نصنفها تصنيفا سطحيا على أساس كونها وقائع قد نلجأ إلى الاطلاع عليها بهدف الفضول المعرفي وتزجية الوقت والترفيه عن النفس، ليس إلا. لكن ما قد يغيب عن وعينا هو أن التاريخ يعد بمثابة الدعامة الأولى بالنسبة للهوية، بل وعمودها الفقري الذي لا تستقيم بدونه. إذ لا أحد يجادل في كون سؤال الهوية من الأسئلة المتجددة والمطروحة باستمرار في كل زمان ومكان، وأن المقاربة التاريخية تشكل على الدوام المدخل الرئيسي لمحاولة الإجابة عنها.
وهذا معناه أن كل تساؤلاتنا الوجودية ومحاولاتنا لفهم ومعالجة قضيانا الآنية تدفعنا حتما إلى تفكير يستمد قوته أو ضعفه من معرفة استقرائية أو استنباطية ذات خلفية تاريخية معينة. وهناك قاعدة قطعية غير قابلة للتجريح أو التكذيب، وهي باختصار: من لا تاريخ له لا هوية له… إن الذاكرة التاريخية لكل الشعوب والأمم تؤثتها تحولاتها العميقة وإخفاقاتها ونجاحاتها المصيرية، وهي بالتالي عبارة عن سجل مفتوح تنهل منه الأجيال المتتالية ما يبدو لها وجيها لفهم إشكاليات الحاضر والاستعداد لمواجهة المستقبل بمفاجآته واحتمالاته المتعددة…
لقد كان المغرب وسيظل دوما مستهدفا من قبل قوى معادية لأسباب وذرائع مختلفة، وذلك لعدة اعتبارات من أهمها موقعه الاستراتيجي الفريد من نوعه وثرواته الطبيعية الوفيرة. ولعل من أكبر الهزات العنيفة التي كادت أن تعصف بهذا البلد في مهب الريح، وتجعل مواطنيه أضيع من الأيتام على موائد اللئام، بعدما كانوا بناة حضارة وأصحاب جاه ومكانة على الصعيد العالمي، تلك الرجة التاريخية التي جسدتها الحقبة الاستعمارية الغربية المعاصرة بكل ما أوتيت من شراسة وكيد. إن معاناة المغاربة مع ويلات الاستعمار الغربي دامت عقودا طويلة، والبعض من رواسبه ومكايده ما زالت إلى يوم الناس هذا تشكل فخاخا ودسائس ماكرة التي قد تتحول إلى قنابل موقوتة ذات قدرة تخريبية مهولة، في حالة عدم القدرة على تفكيكها وإبطال مفعولها.
من المعلوم أن اسم «المغرب» في جل اللغات الأوروبية (Marokko, Morocco, Maroc, Marruecos, etc.) هو في الأصل تحريف لكلمة «مراكش»، تلك المدينة التي كانت عاصمة للبلاد في زمن كان يعد فيه المغرب من صناع السياسة الدولية الذين يحتلون الصدارة، ويشكل محط أنظار أوروبا القابعة في ظلامها الحضاري. لكنه كما يقال “دوام الحال من المحال” و”الدهر يومان، يوم لك ويوم عليك…”. فها هي الأندلس تسقط من أيدي المغاربة الذين أصبحوا مهددين في عقر دارهم. لا بل أكثر من ذلك، لقد تم الاستيلاء على عدد من الثغور المغربية، منها ما تم استرجعه ومنها ما بقي محتلا إلى يومنا هذا (سبتة ومليلية وجزر باديس والنكور وكبدانة والبرهان…)، وهكذا أجبر المغرب على تبني إستراتيجية دفاعية كانت تعبيرا واضحا عن تراجع نفوذه وانهيار هيبته وسمعته.
نعم، هناك على الأقل معركتان سجلهما التاريخ الحديث والمعاصر، واللتان جسدتا إلى حد بعيد قدرة المغاربة الدائمة على رفع التحدي، وهما معركتا وادي المخازن (1578) وأنوال (1921). لكن لا يجب أن ننسى أن وقائعهما جرت قبل كل شيء فوق التراب الوطني، هذا في الوقت الذي كانت فيه مضاعفة الجهود والتضحيات تحتم على المغاربة أن تدور نفس المواجهات على مشارف لشبونة بالنسبة للمعركة الأولى، وفي ضواحي مدريد بالنسبة للثانية.
وهنا لا بد من الإشارة إلى صحة القاعدة العامة المعروفة منذ العصر الروماني، وهي: من يريد السلام فعليه أن يستعد للحرب… وذلك ما لم يكن المغرب قادرا على التخطيط له في غياب نهضة ثقافية علمية متطورة، ولا على إنجازه في غياب تنظيم اجتماعي يرقى إلى مستوى تحديات العصر.
ومهما يكن من أمر، ورغم كل هذا الانحطاط وتداعياته، فإن القرن العشرين يسجل الوقوف عند تضحيات عناصر الحركة الوطنية المغربية من أجل الحرية والاستقلال، وعند التجربة الرائدة والفريدة من نوعها التي جسدتها المسيرة الخضراء، كأسطع وأقوى برهان على دوام قدرة المغاربة على كسب الرهانات وتثمين هويتهم التاريخية والتضحية من أجلها بكل غالي ونفيس.
ويبقى الاهتمام في هذه السلسلة من المقالات منصبا بالخصوص على موضوع التكالب الاستعماري الفرنسي على البلاد، وعلى الأساليب والطروحات التي تم توظيفها بهدف النيل من الشخصية المغربية وطمس مقوماتها الحضارية والثقافية. إن هذا هو الإطار المنهجي الذي لا غنى عنه في اكتناه المسألة الأمازيغية تماما كما اختمرت وتبرعمت في سياقها الكولونيالي.
وللتذكير فإنه منذ استيلائها على الجزائر سنة 1830 كانت نوايا فرنسا ومخططاتها كلها موجهة قصد بسط سيطرتها على المغرب. وقد استعملت من أجل ذلك طريقة استعمارية متطورة تتلخص في تخريب المجتمع المغربي من الداخل وإبطال مفعول مناعته في مواجهة الطغيان. وخلافا للاستعمار الكلاسيكي، فإن فرنسا استعملت في غزوها للمغرب طرقا شتى مبنية في معظمها على معرفة لا يستهان بها للمجتمع المغربي، ليس بهدف التواصل السلمي مع مكوناته ولكن من أجل استعباده وتحقيره.
وهكذا فإن المغاربة في الواقع لم يتم قهرهم بقوة السلاح بقدر ما تم بقوة الدعايات الكاذبة والتشويش المغرض والأساليب الشيطانية التي تمكن المستعمر من توظيفها لتحقيق أهدافه المبيتة. إن انهزام المغاربة في وجه الاجتياح الاستعماري كان نتيجة للحرب الدعائية الكولونيالية أكثر بكثير من كونه نتيجة للغزو العسكري.
لذلك رأيت لزاما الكشف عن بعض معالم هذا المسلسل قبل الوقوف عند تفاصيل الأحداث وردود الفعل التي خلفها الظهير السيء الذكر. إن الدراسات المتأنية توضح بما لا يدع مجالا للشك أن الأنشطة الثقافية والعلمية والتعليمية الفرنسية المشبوهة ساعدت بنجاعة فائقة على تغلغل الاستعمار بالمغرب، وساهمت إلى حد بعيد في إلحاق أضرار بليغة بالهوية المغربية بمختلف أبعادها الحضارية والثقافية، وعلى رأسها المكون الأمازيغي… بقي علي أن أشير هنا بإيجاز شديد إلى قضايا منهجية صرفة لها علاقة وطيدة بضوابط ومعايير البحث العلمي في مجال علوم الإعلام والاتصال ومدى تأثيرها على البحث التاريخي المعاصر وتأثرها به.
وفي هذا الإطار بالذات، يعد البحث عن الحقيقة بنسبيتها -وليس بمطلقها- بمثابة حجر الزاوية في كافة الممارسات الإعلامية المعاصرة التي تحترم أخلاقيات المهنة المتعارف عليها دوليا، والتي تشكل رافدا من أهم الروافد التي لا غنى عنها في كتابة التاريخ المعاصر. ورغم حداثته فإن الأركان المنهجية لحقل علوم الإعلام والاتصال تتقاطع إيجابا مع أساليب البحث العلمي التاريخي التي تم تقعيدها تراكميا منذ كتابات المؤرخ اليوناني هيرودوت في القرن الخامس قبل الميلاد، ومنها تم استخلاص الأسئلة المرجعية المعروفة بالأخوات الست:(من؟ ماذا؟ متى؟ كيف؟ أين؟ لماذا؟). وفي القرن العشرين يعد هارولد لاصويل، عالم الاجتماع الأمريكي، من أشهر من وضع تصورا معقلنا للدراسات الإعلامية المعاصرة، من خلال النموذج المنهجي الذي يحمل اسمه ) :من؟ يقول ماذا؟ لمن؟ بأية وسيلة؟ وبأي تأثير؟
وعلى أي حال، فإن دراسة المسألة الأمازيغية في بعدها الإعلامي/التاريخي المعاصر ليست في منأى عن إشكالية تداخل العناصر الموضوعية مع المواقف الذاتية، لذلك يستوجب على الباحث، حفاظا على مصداقية تحرياته، الالتزام الصارم بمضمون القاعدة العامة: الخبر مقدس والتعليق حر !