استجوبه: عبد العزيز كوكاس
هذا الحوار المطول مع الأستاذ امحمد بوستة الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، يعود إلى فبراير 2011 و يعتبر أطول حوار يتيح للقراء معرفة تفاصيل كثيرة من الحياة السياسية تعيد صحيفة” 24 ساعة” الإلكترونية نشر الحوار الذي قام به الاعلامي عبد العزيز كوكاس باتفاق مع الناشر .
تفصلنا عن عام 1994، 16 سنة، وهي مدة كافية ليتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، نريد أن نعرف السر الحقيقي لرفضكم عرض الملك الراحل حول التناوب؟
في الحقيقة، كل ما قيل عن تلك المرحلة من نهاية القرن الماضي، كان مرتبطاً بمسألة جوهرية في النضال السياسي في المغرب، وهي نزاهة الانتخابات، لقد كان الاتفاق هو أن نتحمل ككتلة ديمقراطية بعد انتخابات يونيو 1992 وشتنبر 1993 أمر تسيير الشأن العام، وعرض عليَّ الملك الراحل أمر تشكيل الحكومة، فأجبته رحمه الله، بكل وضوح.. نحن على استعداد لتحمل مسؤوليتنا لكننا نرى أنه لم يتم احترام الاتفاق الذي كان بيننا.
ما هي تفاصيل هذا الاتفاق؟
لقد كنا بصدد إرساء تغيير جذري للإصلاح في المغرب، ينطلق من قاعدة نزاهة الانتخابات وضمان شفافيتها، ووعد الملك الراحل بأن يستعمل كل سلطاته وصلاحياته الدستورية لضمان نزاهة الانتخابات، وأن تنبثق الحكومة، في احترام تام لإرادة الناخبين، من صناديق الاقتراع، وأن تأسيس الحكومة يكون من طرف جلالة الملك، وهذا حق تمْنحه جل الدساتير لرؤساء الدول، وأن تكون هذه الحكومة مساندة من قبل أغلبية برلمانية، ثم بُعْدُ سلطة مؤسسة الوزير الأول، أي أن جلالة الملك يعين الوزراء، بناء على اقتراح الوزير الأول. وفي هذا السياق جاء العرض الملكي لتحمل الكتلة مسؤولية التسيير الحكومي.. والكل يعرف اليوم الأجواء التي مرت فيها انتخابات شتنبر 1993 بالخصوص، الشيء الذي جعلنا ككتلة ديمقراطية بمجموعنا لا نحصل على أغلبية تمكننا من تشكيل الحكومة، بمعنى أن القاعدة السياسية التي بُني عليها الاتفاق، لم تُحتَرم، وبالتالي انهارت كل التعاقدات الأخرى.. فلم تكن الانتخابات نزيهة،ولم نحصل ككتلة على أغلبية سياسية في البرلمان.. و
(مقاطعا) لكن كان الحسن الثاني قد ضمن لكم دعم حزبي التجمع الوطني للأحرار والحركة الشعبية خاصة؟
صحيح، لكني رفضت هذه الأغلبية المستعارة، لأني لا أقبل مثل هذه التلاعبات.. بأن يُضمن لي آخرون خارج الكتلة، للتصويت على برنامجي السياسي.. وقد سبق لي قبل شهور قليلة على العرض الملكي، أن ألقيت خطاباً قوياً في البرلمان، أقول فيه بالحرف، إن الكارثة الكبرى في المغرب هي تزوير الانتخابات الذي يجعلنا دوماً في صفوف الدول المتخلفة المطعون في انتخاباتها، والتي لا تمتلك مؤسساتها أي مصداقية، فما معنى وجود حكومة منبثقة عن برلمان ناتج عن انتخابات مزورة، هذا ما قلته بالجهر في البرلمان، وخاطبت يومها رئيس الحكومة آنذاك السيد محمد كريم العمراني وبجانبه وزير الداخلية إدريس البصري، وقلت لهما أنتما السبب في الكارثة التي يعرفها المغرب، واستغربت كيف يهنئ الوزير الأول السيد كريم العمراني وزير الداخلية على نزاهة الانتخابات.. وقلت لهما: « أنتما لم تحترما إرادة الملك الذي وعد بانتخابات نزيهة وشفافة.. »، فلما عرض عليَّ الملك الراحل أمر تشكيل الحكومة، قلت له أولا نحن ليس لدينا أغلبية بسبب تزوير الانتخابات، وثانيا، أمام أخلاقي والتزاماتي بمبادئ أدافع عنها، لن يُقبل مني أبداً أن أقف أمام برلمان بهذا الشكل، وأقدم حكومة وبجانبي إدريس البصري الذي كنت أقول فيه كل هذا الكلام.
هل هو بالفعل التزام بقناعات مبدئية واحترام لتعاقدات أخلاقية مع مناضليكم ومع الرأي العام، أم أن الأمر أصبح ذا طابع شخصي في المواجهة بينكم وبين وزير الداخلية؟
لم يكن لدي أي صراع شخصي مع إدريس البصري، لقد كان لي صراع مع وزير الداخلية وسلوكاته في عدم احترام الإرادة الشعبية والإساءة إلى المغرب ومؤسساته، وأعتبر أن كل الإخوان في الكتلة أو في حزب الاستقلال، كانوا يساندون موقفي، واعتبروا أني على حق. وما معنى ألا يحترم السياسي التزاماته وتعاقداته؟! إنها هي الرابط الوحيد التي تجمعه بالرأي العام.. أنا لا أفهم كيف يمكن أن أنعت وزير الداخلية بكل ما قلته فيه في البرلمان، وآتي بعدها وأشكل حكومة فيها إدريس البصري؟! هذه هي الأسباب الحقيقية.
ألم تندموا على هذا الموقف، ليس فقط لمصلحة شخصية في أن يكون محمد بوستة وزيراً أول وحزب الاستقلال هو عصب الحكومة إضافة إلى الكتلة، بل أيضا لمصلحة المغرب، خاصة وأنه بعد أربع سنوات قَبِل صديقكم عبد الرحمان اليوسفي أن يكون وزيراً أول وفي ظل شروط أدنى مما توفَّر لديكم في 1993 و1994 عبر العرضين الملكيين؟
أنا لم أندم على هذا الموقف أبدا، رغم أنه كانت هناك معارضات في صفوفنا تدفع باتجاه الانخراط في الحكومة.. كيف تطورت الأمور فيما بعد؟ وكيف قبل السي عبد الرحمان اليوسفي الدخول إلى الحكومة في 1998؟ هذه مسألة أخرى، ربما كانت هناك ظروف جديدة قد تغيرت.. المهم بالنسبة لي كان عندي مبدأ، ظللت أدافع عنه بشكل معقول وواضح..
ذكرتم أنه كانت هناك معارضات لموقفكم من عدم الدخول إلى الحكومة، هل كانت من داخل قيادة حزب الاستقلال أم من طرف أصدقائكم في الكتلة؟
كانت من الطرفين معا في الحقيقة، لكني تمكنت من إقناع من لم يكونوا على نفس رأيي، وقد أبرزت الوقائع التالية في المغرب، صحة وجهة نظرنا كحزب وككتلة.
بم فسرتم صدور بلاغ للديوان الملكي في 11 يناير 1995، يرفع وزير الداخلية إلى مؤسسة دستورية، ويصبح إدريس البصري..
(مقاطعا وهو يضحك) من المقدسات.. بالفعل اتصل بنا أحمد رضى اكديرة، أنا والسي محمد اليازغي، وقال بأنه نظراً لرفضك العرض الملكي، أن جلالة الملك قرر إصدار بلاغ وأمر بألا يُذاع قبل أن تطَّلع عليه، قلنا له مرحبا، ولما تلى علينا نص البلاغ، قلنا له، أنا وسي محمد اليازغي، ها هو ما زال حياً، من حق صاحب الجلالة أن يؤخر التناوب، لأنه ارتأى أن شروطه لم تنضج بعد، لكن اعتبرنا إدخال إدريس البصري ضمن المقدسات، عيبا وأمرا مشينا. فالمقدسات معروفة لدى كل المغاربة من النظام الملكي إلى الدين الإسلامي، أما أن نتحدث عن الأشخاص بالمقدسات فهذا عيب.. لكن اكديرة، رحمه الله، أصرَّ على أن هذه الكلمة وضعها جلالة الملك ويجب أن تبقى في نص البلاغ، فقلنا له حينها، لكم الحق أن تصدروا البلاغ الذي تريدون، لكن بالنسبة لنا نرى أمر تقديس وزير الداخلية فيه قذف في حق المغرب، وفي حق الملك.. لذلك نطلب من جلالة الملك حذف هذه العبارة، لكنه أصر على بقائها، وتم تأخير صدور البيان وأعاد الاتصال بنا ليلا، لمراجعة موقفنا وظللنا مصرين على موقفنا، وبالتالي لم يُذع نص البلاغ إلا في صبيحة اليوم الموالي..
ما هي رسالة إلحاح الملك الراحل على الإبقاء على هذه العبارة.. « رفع وزير الداخلية إلى مؤسسة دستورية ».. خارج أن هذا الشخص الذي رفضتم عرض الملك لتولي الحكومة بسببه.. يرفعه الحسن الثاني إلى طابع القداسة؟
والو، أعتقد أن أحمد رضا اكديرة كان يقوم بدوره، وهو إفساد هذا التلاقي بين الملك والكتلة، وكان ضد أن يصبح حزب الاستقلال على رأس الحكومة.. لذلك قام بتصريف هذا الأمر، فهو له نظرية في هذا البعد ضد حزب الاستقلال من زمان، وظل يكشف عن مخططه كلما سنحت له الفرصة بذلك.
هل كان رأي محمد اليازغي على نفس موقفكم؟
تماما، فقد ظل السي محمد اليازغي يلح أيضا على حذف هذه العبارة، وكان موقفه مشرِّفاً جداً، كنا متفقين على طول الخط في هذه المسألة.
ألم يقل لكم الحسن الثاني جرِّبوا إدريس البصري في حكومتكم وعلى ضماناته؟
هو ألحَّ عليَّ، لم يقل جرِّبوه، ولكن قال بأن إدريس البصري في خدمة البلاد وسيكون رهن إشارة الحكومة، لكن هذا لا يغير شيئا من موقف مبدئي وعلني، لأنه إذا كنا سنحترم اتفاقاتنا، وسنكون جديين في تحقيق التغيير الجذري الذي اتفقنا على أسسه، من الانتخابات النزيهة إلى تعيين الوزير الأول من الأغلبية، واحترام صلاحيات الوزير الأول في اقتراح أسماء الوزراء الذين يعينهم جلالة الملك وهذا من حقه، فأنا شخصيا لن أقبل أن يكون بين وزراء حكومتي، رجل ارتبطت به كل أشكال التزوير والفساد.
لقد كان هناك شيء من العبث السياسي.. في 1992 يخطب الملك الراحل بأنه لا يقبل بالتزوير وأنه حرَّمه على نفسه وعلى حكومته، ومع ذلك تم تزوير الانتخابات.. وفي 1996 قال رحمه الله: « سأستعمل كل صلاحياتي الدستورية لمنع التزوير »، ومع ذلك يحدث التزوير بشكل أفظع من الأول… كيف تفسرون التزامات نظرية لأكبر سلطة دستورية في البلد، وانتخابات على أرض الواقع تظل تتعرض للتزوير والإفساد؟
هذا هو المشكل فهاذ البلاد حتى اليوم، مع كامل الأسف، منذ أول استشارة شعبية في 1963، عندما تأسس الفديك حتى الآن، لقد كان التزوير علنيا، وحتى حين وقع تغيير في فكر الملك الراحل في أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، فإن كل ما أعلن عنه جلالة الملك لم يطبق، وهنا تبقى دائرة الغموض واضحة جدا.
إن الأمر لا يعني إلا أحد شيئين: إما أن الملك الراحل كان يؤمن بما يقول ومحيطه هو الذي لم يحترم خطبه وما التزم به أمام الرأي العام، وهنا سندخل إلى من له سلطة القرار، وهو أمر صعب أن نقول بصدده أن الملك الراحل لم يكن يعلم بوقائع التزوير أو بأنه يُفرض عليه الأمر الواقع، وإما أنه لم يكن يُسوِّق سوى أوهام هو أول من يعرف أنها لن تطبق.. كيف تؤِّولون الأمور بشكل جلي؟
(ضاحكا) ها أنت بدأت توسع من دائرة الغُموض!
لا حظوا معي أستاذ محمد بوستة هذه المفارقة: دستور 1992 كان أقوى من دستور 1996، رفضتم الأول وصادقتم على الثاني، انتخابات 1992/1993 أقل تزويرا، وفي 1994 كانت الضمانات السياسية أقوى منها كما في 1998، رفضتم أنتم تشكيل الحكومة في 1994 لاعتبارات أخلاقية، وقبل صديقكم اليوسفي بها في 1998 في ظل انتخابات أكثر تزويرا.. أين يوجد المنطق هنا؟
كل ما قلْْتََه صحيحا، ويمكن أن أذهب معك بعيداً إلى الوراء، لأقول لك إن دستور 1962 كان جد متقدم على الدساتير التي تلته، بما فيها دستور 1996 الذي يحكمنا الآن. لكن للأسف، وبحكم آثار الانفصال مع إخواننا، لم نكن على نفس الرأي، إخواننا الاتحاديون كانوا يطالبون بمجلس تأسيسي لوضع الدستور، وكان علال الفاسي رحمه الله، يقول لهم الآن الدستور موجود، فلا ينبغي أن نُعيد أسئلة من وضع الدستور؟ ومن منحه؟ لأنه يجب أن نخرج من حالة اللادستور إلى حالة الدستور، وحينها نخوض معركة من أجل إصلاحه وتغييره، وهي معركة طويلة النفس، لقد اعتبر السي علال، أن دستور 1962 يضع اللبنات الأولية والأساسية لخروج البلاد من حالة الفوضى إلى دولة المؤسسات، ومن داخل هذه المنظومة الدستورية يمكن أن نصلح ونغير الأوضاع، خاصة فيما يخص سلطة الوزير الأول واختصاصاته..
برأيكم، لماذا لم يكن الملك الحسن الثاني يسمح باختصاصات أوسع للوزير الأول؟
في المجال الدستوري، هناك أمور تكتب في الدستور وهناك أمور تفرضها الممارسة الدستورية، مثلا تسمية الوزراء، هذه مسألة أساسية، فرئيس الدولة هو الذي يسمي الوزير الأول وباقي الوزراء، لكن الاقتراح يدخل في مجال الممارسات الدستورية، كذلك استقالة الوزراء يجب أن تكون للوزير الأول قبل الملك، وكان الاتفاق مع الحسن الثاني، أنه ليس من الضروري أن تُكتب هذه الأشياء في الدستور، ولكن أن تمارس وتُقعَّد في العمل الدستوري… « هاذ الشي ما يَمْكنش نْسَتْروه كثر من اللازم ».. لقد كان بجانب الملك، أحمد رضى اكديرة الذي أعتبر أنه هو صاحب مثل هذه الفتاوى على الحسن الثاني.