الطيب بوتبقالت
ليست قضية ما يعرف إعلاميا ب “الظهير البربري” من نوع القضايا التي تتضح لأول وهلة مكوناتها ومراميها، بحيث يمكن تحليلها والتعليق عليها بنوع من الطمأنينة المنهجية، سيما إذا كانت جل معطياتها متوفرة وطبيعة مدلولها شفافة نسبيا. إنها قضية تطرح إشكاليات معقدة ومتشعبة، فإذا كان سياقها التاريخي لا يترك مجالا للغموض، فإن آثارها وتجلياتها الظاهرة والخفية لا تخلو من ضبابية في الرؤية وتداخل في المفاهيم.
وهي على الرغم من مرور أزيد من تسعين سنة على حدوثها، فإنها ما زالت في حاجة ماسة إلى التشريح والتوضيح، ومسؤولية ذلك تقع في المقام الأول على عاتق الباحثين الجادين والمفكرين المغاربة النابهين.
إنه لا جدال في كون الظهير البربري يشكل حمولة خاصة في الذاكرة الجماعية الوطنية، وهو لذلك يعتبر وثيقة ثمينة ستظل الأجيال الغيورة على انتمائها للوطن تحتفظ بعبرها التاريخية، وما هذه الدراسة إلا مساهمة متواضعة في نفض الغبار عن ذاكرتنا التاريخية الجماعية.
يعد ليوطي المفوض المقيم العام للجمهورية الفرنسية بالمغرب الذي وضع الأسس الأولية لنظام الحماية، وأرسى دعائم هذا النظام على قواعد برغماتية كولونيالية محضة. فهو الذي رسم كل أهداف الخطة الاستعمارية التي كانت فرنسا تلتزم بتحقيقها وتسير على ضوء انتهاجها. وقد كانت الطبقة البورجوازية والعائلات الارستقراطية والتيارات اليمينية المحافظة تكن له نوعا من الاحترام والتقدير، فيما كان يتمتع لدى قادة الجيش الفرنسي بباريس بسمعة الضابط المحنك ذي الكفاءة العالية، لذلك نودي عليه في أوج الحرب العالمية الأولى ليتولى منصب وزير الحربية.
وفعلا تولى هذا المنصب لمدة أسابيع قليلة سنة 1916 لكنه لم يحقق خلالها نتائج تذكر، رجع بعدها إلى إقامته العامة بالرباط ليتابع تنفيذ مخططاته، وبقي في منصبه هذا إلى عام 1925. ولم يكن رحيل مهندس السياسة الكولونيالية الفرنسية بالمغرب بإرادة منه، أو بسبب مرضه أو تقاعده، وإنما جاء كثمرة من ثمار انتفاضة الريف المجيدة.
وخلافا لما حققته خطته من تضليل وتغلغل في المنطقة الجنوبية من البلاد، فإن أساليبه الدعائية الخبيثة ومناوراته الاستخباراتية التخريبية لم يكن لها أي تأثير على عزيمة أبناء الريف في مقاومتهم للطغيان، ولم يجد ليوطي من بينهم أنذالا من طينة الكلاوي والقواد التابعين له.
عندها تبين لفرنسا أن مقيمها العام الأول بالمغرب قد استنفذ دوره، بدليل أنه لم يعد قادرا على مواجهة تطورات الأحداث ورفع التحدي الكولونيالي، وهكذا كلفت الحكومة الباريسية المارشال بيتان بإدارة العمليات العسكرية على الجبهة الريفية ووضعت تحت أوامره ما لا يقل عن 60 جنرالا فرنسيا، جاؤوا على رأس كتائب مدججة بالسلاح لكبح جماح الانتفاضة الريفية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من القضاء على الوجود الامبريالي في منطقة الشمال الإفريقي قاطبة، وليس فقط في حدود القبائل الريفية كما كانت تتداوله بعض التحليلات الاستعمارية.
دخلت الحماية مرحلة ما بعد ليوطي حتى وإن بقيت آثار سياسته سارية المفعول على مستويات شتى. وفيما يخص السياسة البربرية على وجه التحديد، فإن ما عرفه هذا الملف من مستجدات قبل الإعلان عن التحالف المزدوج الفرنسي -الاسباني ضد الريفيين، يمكن إجماله في نقطتين جديرتين بالملاحظة. كانت الأولى تتجلى في ظهور بارز لعدم الانسجام بين الرؤية الاستعمارية ذات البعد السياسي العام وبين الإجراءات التطبيقية المبنية على القاعدة العرفية كمعيار لتصنيف القبائل الأمازيغية المغربية. بينما كانت النقطة الثانية تتجلى في ظهور المدارس البربرية.
تناقضات التشريع الاستعماري
بعد استصدار ظهير 1914 الذي كان ينظم القبائل الأمازيغية بالاستناد حصريا على أعرافها وتقاليدها، بدأ المستعمر يميز القبائل المغربية ما بين « قبائل الشرع» و« قبائل العرف». ولم يكن هذا التنظيم القضائي الكولونيالي يرتكز سوى على دوريات إدارية لا تتوفر على سند “قانوني”. علما بأن المسألة هنا في الحقيقة لا تخضع إلى مسوغات المشروعية أو عدم المشروعية للقاعدة القانونية المتبعة، فهذا غير وارد لأن النظام كان نظاما كولونياليا في كلياته وفي جزئياته، لكن ما يسترعي الانتباه هو العجز الفعلي للمستعمر وعدم قدرته على بناء هيكل “قانوني” متماسك ومنسجم حتى وإن كان جائرا. وعلى أي حال، لم يكن تخبط المستعمر ليثني عزمه عن مواصلة عمله البرغماتي.
وهكذا كانت التعليمات تصدر عن الإقامة العامة بهدف الشروع في تنظيم العدلية البربرية، وكانت أولى دورياتها في هذا الموضوع تلك المؤرخة في 22 شتنبر 1915 والمتعلقة بقبائل كروان الجنوبية وقبائل بني مطير، حيث تم فرض “قاضي الصلح” عليها بهدف تطبيق أعراف تدخل في نطاق القانون الخاص. والمحاولة الثانية لتنظيم العدلية البربرية جاءت موزعة بين دوريتين بتاريخ 10 يوليوز و17 غشت 1923، وكانتا ترميان إلى تأسيس «هيئة حكام» تمت تسميتها ب «الجماعة القضائية»، وأشارت التعليمات إلى ضرورة جمع العشائر الأمازيغية على شكل تكتلات من الفرق القبلية تكون تابعة لجماعة «قضائية» معينة، وهو إجراء كان يهدف بالأساس إلى تقليص عدد «الجماعات القضائية»، لتيسير مراقبتها من جهة وتخفيض نفقاتها من جهة ثانية. وهذا
بالطبع ما كان يتعارض ليس فقط مع طبيعة البنية القبلية بل كذلك حتى مع اعتبارات الحماية المزعومة للتعدد «العرفي» والتزام الإقامة العامة بالحفاظ على استقلالية هذا التعدد. بعد ذلك تم تطوير «الجماعات القضائية» لتصبح محاكم قائمة الذات بناء على دورية بتاريخ 29 يناير 1924.
وكانت هذه الدورية تنص على أن اختصاصات تلك المحاكم هي نفسها الاختصاصات المعترف بها للقاضي في المناطق الخاضعة لتطبيق «الشرع».
وصدرت دورية أخرى بتاريخ 16 فبراير 1924 قصد تنظيم تلك الجماعات. وهكذا تدريجيا، وبصفة تعسفية، تم إحداث عدد من «الجماعات البربرية» تتولى الشؤون القضائية في مجموعة من المراكز الإدارية تحت إشراف كتاب فرنسيين كان معظمهم من الضباط التراجمة التابعين للمصالح الاستخباراتية. وسرعان ما تبين أن الرئيس الآمر والناهي للجماعة ما هو إلا السكرتير الفرنسي، وأن الأعراف الأمازيغية لا يؤخذ منها بعين الاعتبار إلا تلك التي كان السكرتير يراها ملائمة لأهداف السياسة الاستعمارية، وما عداها فكان يتم تعديله أو إلغاؤه بحجة كونه من بقايا تشريعات بدائية تتعارض والقيم الحضارية الراقية.
والواقع أن سكرتير “الجماعة القضائية البربرية” كان تجسيدا لمرحلة انتقالية بدأت فيها التنظيمات القضائية الفرنسية تتأهب لابتلاع النظام العرفي المفتعل. وفي هذا الباب جاء تأكيد على لسان مستشار الحكومة الشريفة، الذي كان بطبيعة الحال تابعا لأوامر الإقامة العامة، مفاده: «إن مبدأ استقلال العرف البربري ودوائر اختصاصه عن الشرع الإسلامي مبدأ فيه أكبر مصلحة سياسية لفرنسا، وإن إلغاء الشرع الإسلامي في جميع المناطق البربرية بشكل نهائي ومطلق يسمح لنا، في يوم قد يكون بعيدا شيئا ما، بإنشاء نظام معقول للعدلية البربرية من منظور فرنسي خالص».
وبينما كان العرف الأمازيغي يضمن حق الطعن عبر اللجوء إلى ثلاثة حكام متتاليين. فإن الدوريات الاستعمارية تجاهلت هذا الحق تماما ولم تكترث بتأثير ذلك على «البرابرة» الذين جاءت فرنسا «لتحميهم من ابتزازات وخروقات المخزن». وكان من بين النتائج التي أسفرت عنها نهاية الحرب بأوربا التدفق المتزايد للقوى الاستعمارية في اتجاه المغرب. وبدأت المصالح الكولونيالية تنتشر وتتطور كما وكيفا، مما أسفر عن ارتفاع عدد الصفقات والمعاملات المختلفة. وترتب عن الاستئناف الديناميكي لهذه الأنشطة تزايد مباشر في عدد الأحكام والعقود. وكنتيجة حتمية لهذا التطور بدأت تناقضات النظام المفبرك للعدلية البربرية تطفو على السطح.
وكأمثلة لذلك نجد أن قبائل زمور بمنطقة الخميسات قد تم تصنيفها سنة 1916 على أساس كونها تابعة لمنطقة «الشرع»، لكن تحت تأثير المصالح الاستعمارية أعيد تصنيفها سنة 1920 لتصبح تابعة لمنطقة «العرف»، وفي يوم 5 ماي 1923 صنفت قبيلة أيت سعدان، الواقعة على بعد 25 كلم إلى الشمال الشرقي من مدينة فاس، ضمن قبائل «العرف» لكن سرعان ما غير المستعمر رأيه ليصنفها ضمن قبائل «الشرع»، وغير اسمها لتصبح قبيلة بني سعدان! وبموجب قرار بتاريخ 23 ماي 1923 تم تصنيف 13 فرقة تابعة لقبيلة أيت يوسى، في مقاطعة صفرو، على أساس «العرف» ولكن تم إلحاقها فيما بعد بمنطقة «الشرع». وظهرت حالات أخرى مشابهة كثيرة. والسبب في ذلك كان راجعا إلى إملاءات الإرادة الاستعمارية وفقا لمصالحها. وهكذا اتضح للإقامة العامة أن الأخطاء التي ارتكبت في منطقة «القبائل» والأوراس بالجزائر هي نفسها تقريبا التي لم يكن تفاديها ممكنا في المغرب رغم حنكة ليوطي وبعد نظره الكولونيالي. وبالتالي فإن السياسة البربرية التي كانت تلوح بتسجيل نجاحات باهرة بدأت تناقضاتها الصارخة توحي بالسقوط في متاهة الإحباطات المتتالية.
إخفاق تجربة المدارس الفرنسية–البربرية
كان من بين متزعمي السياسة البربرية في مجال التعليم أحد مستشاري ليوطي المقربين، ويدعى موريس لوكلي. كتب هذا الأخير مقالا صدر في نشرة التعليم العمومي بالمغرب لشهر غشت 1921، وفيه أشار إلى أن سياسة فرنسا لا يمكنها أن تكون موحدة بالنسبة لجميع جهات المغرب، وذلك بالرغم من اعتبار هذا البلد أمازيغيا خالصا في جل مناطقه. وتساءل لوكلي حول إمكانية حدوث حالة من الاستغراب لدى مواطنيه الفرنسيين الذين ربما قد يسمعون في يوم ما سكان قبائل أمازيغية يرددون تلك العبارة المشهورة: «أجدادون الغاليونNos ancêtres les Gaulois »،على غرار كل الفرنسيين الأقحاح، فأجاب: «من الممكن جدا أن يحدث ذلك، لأنه على كل حال ليس هناك أحد يعرف على وجه الدقة من أين جاء هؤلاء القوم، انظروا إلى الزعيم الزياني المسمى ولعايدي، إن جمجمته تشبه إلى حد بعيد جمجمة أي من مواطنينا في منطقة لوفيرني، و حتى خشونة طبعه وسلوكه الماكر من الخصائص التي تعزز ذلك الانتماء، كما أن صهره السيد (س) يشبه بطريقة لافتة للنظر واحدا من أنشط معمرينا، ولو قدر له أن يتحدث باللغة الفرنسية لتبددت كل دواعي الاستغراب» !
وبناء على طروحات من هذا النموذج، والتي كانت تشكل العمود الفقري لسياسة الحماية ألبربرية، تم فتح المدارس البربرية الأولى ابتداء من سنة 1923. لكن رغم كل ما بذله المستعمر في هذا المجال من مجهودات تخريبية وتشويهات حقيقية طالت عمق الهوية الأمازيغية، فإن تجربته التعليمية في الوسط الأمازيغي كان مآلها الفشل الذريع.
سياسة «القواد الكبار»
وباستيلائهم على مراكش يوم 7 شتنبر 1912 اكتشف الفرنسيون عن قرب التنظيم الإداري للمناطق الجنوبية والنفوذ الكبير الذي كان يتمتع به بعض القواد الإقطاعيين هناك. ونظرا لشساعة الجبهة الجنوبية وما كان يترتب عن ذلك من بعد المسافات عن نقاط الدعم العسكري، وحقنا للدماء الفرنسية التي كانت من انشغالات ليوطي الدائمة، وحتى يتسنى للمصالح الاستخباراتية أن تتوغل داخل منطقة سوس وتجمع ما استطاعت من المعلومات عن قدورات قبائل أيت باعمران الدفاعية ومدى التفافها حول زاوية ماء العينين، لهذه الاعتبارات ارتأى الجنرال ليوطي أن يترك المناطق الجنوبية في وضع «جبهة غير مفتوحة». ومعنى ذلك أن إستراتيجيته على المدى القريب لم تكن ترتكز على الاكتساح العسكري بالدرجة الأولى، وإنما بالخصوص على «العمل السياسي»، واعتبر ليوطي مراكش كآخر محطة احتلال عسكري في اتجاه الجنوب. وكانت هذه هي الدوافع التي جعلته يعقد تحالفات مع قواد القبائل الجنوبية ليجعل منهم حاجزا بينه وبين القبائل الثائرة أو «المنشقة» حسب التعبير الدعائي الكولونيالي. وكل الترتيبات الرامية إلى استغلال هؤلاء القواد، وضرب بعضهم ببعض، وتعزيز نفوذهم أحيانا، كان الهدف منها هو التحضير المحكم لبسط السيطرة النهائية على القبائل التي كان هؤلاء القواد ينتمون إليها. وهذه الخطة هي ما كان ليوطي يسميه «سياسة القواد الكبار».
خيانة “قواد الجنوب”
بعد مرور أسابيع قليلة على توقيع معاهدة فاس، بادرت القوات الاستعمارية إلى جس نبض قواد الجنوب، وما لبثت أن وجدت فيهم قابلية التعامل مع «الاحتلال»، مما شجع ليوطي على التخطيط لتوجيه ضرباته العسكرية للمناطق الوسطى من البلاد، تاركا الجهة الجنوبية إلى حين. وفي هذا الشأن كتب المقيم العام بتاريخ 10 يونيو 1912 مؤكدا على أن اتصالات مصالحه الاستخباراتية مع قواد الجنوب كانت جد ناجحة بحيث أسفرت عن «إعلان موافقتهم على جميع النقاط المتفق عليها وتضامن مصالحهم معنا». كان اهتمام المخابرات الكولونيالية منصبا على المدني الكلاوي، المنحدر من قبيلة كلاوة والذي كان سابقا الصدر الأعظم في عهد السلطان مولاي عبد الحفيظ، وعلى أخيه الأصغر التهامي الكلاوي، باشا مدينة مراكش، وعلى القائدين عبد المالك المتوكي والطيب الكندافي. هذا بالإضافة إلى مجموعة من القواد من ذوي النفوذ المحلي المحدود أو حتى بدون نفوذ، والذين جعلتهم فرنسا يدورون في فلك «القواد الكبار». وكان ضمن هذه الفئة الثانية قواد ألحقتهم الإقامة العامة تدريجيا بمرتبة قواد الفئة الأولى، وهم القائد العيادي، والقائد أنفلوس، والقائد حيدة ومويس.
لقد وضع أولئك القواد نفوذهم رهن إشارة السلطة الكولونيالية وأصبحوا مجرد دمى وفزعات تتحرك تحت تأثير هبوب رياح الاستعمار العاتية. ونظرا لكون مراكش أضحت القاعدة الرئيسية لتمركز جنود الاحتلال ومصالح استخباراتها الاستعمارية، فإن ليوطي أولى اهتمامه الخاص بعائلة الكلاوي، وعلى رأسها باشا المدينة التهامي الكلاوي، حيث أصبح هذا الأخير بمثابة واسطة العقد بالنسبة لسياسة «القواد الكبار» ومحركها الأساسي الذي تم تشغيله بشكل مكثف إلى درجة بدأ يظهر معها بمظهر إحدى الشخصيات البارزة في المحافل الاستعمارية. وصار التهامي الكلاوي عنوانا ساطعا لنجاح خطة فرنسا في صنع النخب الأهلية المزيفة. وكان يفخر بقيامه أحسن قيام بهذا الدور الذي ظل متمسكا به إلى نهاية عهد الحماية…
عملت السلطات الكولونيالية على تقوية وتوسيع نفوذ الكلاوي الشخصي مع تعزيز ذلك النفوذ بمجموعة من القواد التابعين له. وهكذا ما لبث أن ذاع صيت الكلاوي وشاعت أخبار كثيرة عن «هيبته» المصطنعة والتي لم تكن سوى عبارة عن سلوكيات إقطاعية همجية ضد مواطنيه وعبودية خانعة لأسياده الفرنسيين. وكان طغيانه يمتد ليشمل قبائل أحمر، والمنابها، والودايا، وأولاد دليم، وحربيل، ومجاط، وفروجة، وتامصلوحت، وشيشاوة، ومسفوية، ومزكيطة، وأيت عوينيين، ولحمادة.
هذا بالإضافة إلى عدد من القواد الذين كانوا يعملون تحت أوامره مباشرة، ومنهم القائد العربي ادردور الذي كان يشرف بالنيابة عن الكلاوي على قبائل الزناكتة، وأيت زميع، وآيت رحال. والقائد الحاج أحمد بن حيدر الذي كانت قيادته متوغلة في إقليم سوس لتشمل تارودانت وهوارة، وجزءا من المنابها، وأولاد يحيى، واشتوكة. وأخوه القائد حمادي الكلاوي الذي كان قائدا على وارزازات، وسكورة، وأمران. وابن عمه القائد سي حمو الذي كان قائدا بالنيابة عن الكلاوي على قبيلته كلاوة، وزغيطة، وتلوات، وسكتانة، وسردانة، ودادس، وآيت تفنوت.
إن ذكر هذه القبائل الأمازيغية في مجملها فصلا ومفصلا يكفي لإعطاء نظرة موجزة عن انتشار نفوذ الكلاوي وتغلغل النفوذ الاستعماري في ظله. لقد أطلقت الإقامة العامة للكلاوي الحبل على الغارب وجعلت منه إمبراطورا إقطاعيا مريبا في أعين القبائل التي كانت تحت وطأته، وخادما تافها ذليلا في أعين المستعمرين الذين كانوا يسخرونه.
إنه لولا “سياسة القواد الكبار” لانهار سقف نظام الحماية على رأس ليوطي إبان الحرب العالمية الأولى، وكان هو نفسه يعترف بذلك عندما بعث ببرقية إلى باريس بتاريخ 3 يناير 1915 موضحا فيها أن أمن منطقة الجنوب المغربي بكامله كان في أيدي ستة قواد: حيدة ومويس في تارودانت، والمتوكي والكندافي في إقليم سوس، و المدني الكلاوي في الأطلس، و التهامي الكلاوي في مراكش، والعيادي في سهول الرحامنة. وأضاف مؤكدا: «إنني اعتمد فعليا على القواد الكبار وألاحظ أنهم يسيطرون على واجهتي الأطلس، وذلك بالرغم من العجز المفرط في أعداد قواتنا المرابطة هناك، إذ لم يبق لدينا سوى كتيبة واحدة من السنغاليين ووحدات احتياط ضعيفة…».
لم تنته «سياسة القواد الكبار» في صيغتها الليوطية حتى عام 1929، أي سنة واحدة قبل استصدار الظهير البربري. وطيلة تلك السنوات لم تكن السلطات الاستعمارية لتكترث بتطبيق سياستها البربرية في المناطق الجنوبية، وكانت تتغاضى-وبنوع من الابتهاج-عن كل التجاوزات الخطيرة للعادات والتقاليد الأمازيغية التي كانت شرذمة تلك القواد تدوسها تحت أقدامها…
الجلسات التحضيرية لظهير 1930
تحت الضغوط المتزايدة للمصالح الكولونيالية، ونظرا لاتساع رقعة المناطق الخاضعة للقانون العرفي عملا بمقتضيات ظهير شتنبر 1914، وحتى لا يتفاقم الوضع الأمني الاستعماري في المناطق التي أصبحت عرضة لنهب وسلب المعمرين تحت ستار عقود شراء تعسفية كان يتم بموجبها الاستيلاء على الأراضي التابعة للقبيلة، ونظرا لظهور بعض الصعوبات التقنية والتعقيدات المسطرية الناتجة عن تناقضات التشريع الكولونيالي، وتحت تأثير ارتفاع عدد الشكايات من طرف الأهالي المتضررين ومن بعض المحامين الأوربيين الذين لم يستطيعوا تحديد مدى قانونية الأحكام الصادرة عن «الجماعات القضائية البربرية»، وبما أن «التهدئة» على وشك تحقيق الاحتلال الشامل للمساحة الجغرافية المخولة لفرنسا في إطار التسويات الاستعمارية، لكل ذلك ها قد حان الوقت لقطع الخطوات الأخيرة الحاسمة في استكمال تنظيم العدلية البربرية و تزويدها بإطارها القانوني الخاص. وهذا بالضبط هو ما جاء من أجله قرار الإقامة العامة بتاريخ 7 دجنبر 1929 الذي أحدث لجنة لدراسة الملف وكلفها بصياغة نص قانوني في الموضوع. وعليه فإن هذه اللجنة هي التي كانت وراء التحضير لظهير 1930، وقد اجتمعت لهذا الغرض ثلاث مرات: يوم 26 فبراير، ويوم 6 مارس، ويوم 23 مارس من سنة 1930، وسجلت لاحقا جريدة «الوحدة المغربية»، في وقت كانت فيه حرية التعبير بالنسبة للمغاربة شبه معدومة، سبقا صحفيا بنشرها لمحاضر تلك الجلسات بعد تعريبها من طرف الشيخ المكي الناصري، وكان أعضاء اللجنة يتألفون من 12 عضوا:
الرئيس الأول لمحكمة الاستئناف، رئيسا للجنة.
الوزير المفوض مدير الشؤون الشريفة.
المدير العام للشؤون الأهلية والمكتب العسكري.
رئيس إدارة المراقبة المدنية.
رئيس إدارة الأبحاث التشريعية.
رئيس المحافظة العقارية.
المراقب المدني رئيس ناحية الرباط.
المراقب المدني رئيس مقاطعة زمور.
ممثل إدارة الشؤون الأهلية.
مندوب المحامين بالرباط
الترجمان رونيسيو من مكتب الشؤون الأهلية لناحية مكناس.
الترجمان كييو من مكتب الشؤون الأهلية لناحية فاس.
ونظرا لأهمية المصالح الاستخباراتية والدور الخطير الذي كان يلعبه ضباط الشؤون الأهلية في تجميع المعطيات والمعلومات حول النفوذ القبلي في مختلف أنحاء المغرب، فقد كانت إدارة الشؤون الأهلية مكلفة بإعداد كل الوثائق وكذلك بتحديد برنامج عمل هذه اللجنة، وكانت غالبية الأعضاء تنتمي للإدارة الاستخباراتية. ونكتفي هنا باستعراض عينة من تدخلات الجلسة الثانية التي انعقدت يوم 6 مارس 1930، والتي على ضوئها نتعرف على كيفية طبخ هذه القرارات.
تعاليق من آخر الجلسات التحضيرية
بينازي: إنني أشك في موافقة المخزن على أن تكون عقوبة الجرائم المرتكبة في بلاد البربر موكولة إلى المحاكم الفرنسية كيفما كان مرتكب الجريمة.
بلان: لا أستطيع أن أؤكد لأعضاء اللجنة مساعدة السلطان على النص المشار إليه.
بينازي: يظهر لي أنه من الممكن التخوف من عدة صعوبات، ومن الممكن حدوث رد فعل من جانب المخزن، وأرى من المستحسن أن نصل إلى هذه التدابير بالتدريج.
مارتي: يظهر لي أن الصعوبات التي تثير المخاوف تتعلق بالفصل الثاني من مشروع الظهير الذي يتطرق للأمور المدنية، حيث أنه يمس القانون الإسلامي المنزل، ويطلب من المخزن أن ينفذ قانونا ليس قانونه.
بلان: من أجل هذا ينبغي أن نطلب من السلطان أقل ما يمكن ونوكل النظام التفصيلي للمحاكم البربرية إلى الكاتب العام للحماية.
ايزار: ليس من الممكن أن تعطى النيابة للمقيم العام أو لممثله في السلطات التشريعية، وهذه الملاحظة قد أدلى بها في الجلسة الأولى لهذه اللجنة رئيس إدارة الأبحاث التشريعية.
مارتي: الاعتراضات التي يمكن أن يقدمها المخزن هي اعتراضات من الوجهة الدينية، فالسلطان بصفته أمير المؤمنين لا يمكنه أن يتنازل ويقوم بإصدار الأمر بإخراج جزء من رعاياه المسلمين عن طاعة القانون الإسلامي الذي نزل به الوحي.
كورديي: إن موقف فرنسا إزاء السلطان وإزاء الدول الأجنبية موقف محدد في عقد الحماية، ويمكن التخوف من حدوث توتر في العلاقات مع هذه الدول من جهة، ومن جهة أخرى يمكن التخوف من تداعيات إنشاء نظام عدلي فرنسي مباشر في البلاد البربرية وهو نظام تابع للسلطة الفرنسية وصادر عنها وحدها، وأنا أعرف قيمة الاعتراضات من الوجهة الدينية، ولكني أتساءل عن إمكانية إجراء هذا الإصلاح دون اللجوء إلى الظهير. إن قيامنا وحدنا بالتنظيم المقصود سيؤدي إلى قطع العلاقات بين السلطان وفرنسا، وفي المستقبل عندما يكون السلطان أشد اهتماما وأكثر اطلاعا سيؤاخذنا قطعا بأننا انتزعنا سلطته واختلسناها اختلاسا، وهذا سيكون على كل حال مناقضا تماما لعقد الحماية الذي يجب علينا احترامه.
الظهير الذي دق أجراس الخطر
انتهت أشغال اللجنة الإدارية المكلفة بتحضير نص قانوني يتعلق بسير العدلية ألبربرية وتنظيمها، وكان ذلك يوم 13 مارس 1930، أي على بعد حوالي شهرين من الإعلان الرسمي عن الظهير البربري. وهكذا قدمت اللجنة اقتراحاتها للإقامة العامة في شكل «مشروع ظهير» وجيز نسبيا، حيث لم تكن مواده تتعدى ثمانية فصول. وأفادت مقارنة نص مشروع الظهير الذي أعدته اللجنة المذكورة ونص ظهير 16 ماي 1930 أنهما متشابهان تشابها حرفيا، وجاءت الحصيلة كعصارة لكل ما راكمه النظام الاستعماري من مناورات تخريبية وأباطيل دعائية وخروقات عدوانية في مجال ما تمت تسميته بالسياسة البربرية. لقد كان استصدار هذا الظهير تتويجا لمرحلة متداخلة الحلقات من المجهودات الاختراقية، وهو في نفس الوقت فاتحة عهد جديد لتوطيد الاحتلال وتعزيز المكاسب الكولونيالية. إنه لم يعد بالإمكان التعامل مع المسألة الأمازيغية عبر اللجوء إلى الأساليب الليوطية التضليلية، نظرا لحدوث متغيرات كثيرة على الساحة الدولية وكذلك على الساحة الوطنية التي شهدت بزوغ حركة سياسية تتابع عن كثب ممارسات السلطة الاستعمارية. ولكن بقي اللجوء إلى الظهير من أجل التزكية والتطبيق أمرا كان من الصعب على الإقامة العامة تفاديه.
وتساءل أحد أعضاء اللجنة المذكورة قائلا: «إن القبائل التي أمناها خضعت لفرنسا، وبمجرد دخولها تحت إدارتنا أعادت عدة قبائل جماعاتها القديمة التي كانت قد انقرضت تحت سلطة القواد الكبار، وكيف يمكن إصدار قانون بدون ظهير؟». ولخص كورديي تطورات السياسة البربرية جاعلا من السلطان حصان طروادة في مواجهة كل العراقيل، تماما كما دأب على القيام بذلك الجنرال ليوطي، وقال: «لا يلزم فقط إصدار ظهير من السلطان لتنظيم العدلية البربرية وتحديدها، بل يجب أيضا أن يتعاون السلطان مع الدولة الحامية لتنفيذ هذا التنظيم، لقد أدخلنا تحت سلطته الكتلة ألبربرية وهذه الكتلة لم تأت عندنا إلا بشرط الاحترام لعوائدها وقد وعدناها بذلك باسم جلالة السلطان وباسم فرنسا، والسلطان سيفهم قطعا قيمة هذا الوعد».
وطبعا كانت هذه نفس الطروحات التي بني عليها ليوطي تصوره البرغماتي واستصدر ظهير 1914 تجسيدا لذلك، وفعلا كان هذا الظهير إلى حدود 1930 هو الوثيقة الوحيدة التي اعتمدت عليها إدارة الشؤون الأهلية في الجهات العسكرية، وعلى مستوى إدارة المراقبة المدنية في النواحي الحضرية.
مضمون ظهير 16 ماي 1930
يمكن إجمال مقتضيات الظهير البربري في المحاور الآتية:
– إحداث محاكم عرفية واعتراف قانوني بالجماعات البربرية.
– إمكانية استئناف الأحكام العرفية.
– إضفاء الصفة القانونية على جهاز المراقبة وسكرتارية الجماعات القضائية مع إحداث مفوضية سكرتارية الضبط.
– تمديد صلاحيات المحاكم العرفية للبت في النزاعات العقارية غير تلك المنصوص عليها في ظهير 15 يونيو 1922 الذي ينظم القواعد المتعلقة بتفويت العقارات للأجانب، وذلك لتشمل النزاعات التي تكون فيها الأطراف المترافعة تابعة للمحاكم الفرنسية.
– تحديد الاختصاصات الجنائية.
– منح التفويض للصدر الأعظم بهدف تحديد التنظيم والتسيير للمحاكم العرفية.
وللمزيد من الإيضاح نعرض هنا لفصوله الثمانية، وأما حيثياته فإنها لا تعدو كونها اجترارا لطروحات الدعاية الكولونيالية الكلاسيكية مع ذكر مراحل إنجازاتها الجائرة.
1-إن المخالفات التي يرتكبها المغاربة في القبائل ذات العوائد البربرية بإيالتنا الشريفة، والتي ينظر فيها القواد في بقية مملكتنا السعيدة، يقع زجرها من طرف رؤساء القبائل، وأما بقية المخالفات فينظر فيها ويقع زجرها، طبقا لما هو مقرر في الفصلين الرابع والسادس من ظهيرنا الشريف.
2-إن الدعاوي المدنية أو التجارية، والدعاوى المختصة بالعقارات أو المنقولات، تعرض على محاكم مختصة تعرف بالمحاكم العرفية ابتدائيا أو نهائيا بحسب الحدود التي يجري تعيينها بقرار وزيري، مع مراعاة القواعد المتعلقة باختصاصات المحاكم الفرنسية بإيالتنا الشريفة، كما تنظر المحاكم المذكورة في جميع القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية أو بأمور الإرث وتطبق في كل الأحوال العوائد المحلية.
3-إن استئناف الأحكام الصادرة عن المحاكم العرفية يرفع أمام محاكم تعرف بالمحاكم العرفية الاستئنافية، وذلك في جميع الأحوال التي يكون فيها الاستئناف مقبولا.
4-إن المحاكم المشار إليها تنظر أيضا في الأمور الجنائية ابتدائيا ونهائيا، ويقصد بها زجر المخالفات المشار إليها في الفقرة الثانية من الفصل الأول أعلاه، وكذلك زجر جميع المخالفات التي يرتكبها أعضاء المحاكم العرفية في نطاق اختصاصاتها الاعتيادية تحت إشراف رئيس القبيلة.
5-يعين لدى كل محكمة عرفية ابتدائية أو استئنافية مندوب مخزني، مفوض من طرف إدارة المراقبة، بالناحية التي يرجع إليها أمره، ويعين أيضا لدى كل واحدة من المحاكم المذكورة كاتب يقوم بدور موثق.
6-إن المحاكم الفرنسية التي تبت في الأمور الجنائية حسب القواعد الخاصة بها، تنظر كذلك في زجر الجنايات التي يقع ارتكابها في النواحي البربرية مهما كانت حالة مرتكب الجناية، ويجري العمل في هذه الأحوال بالظهير المؤرخ في 12 غشت 1913 المتعلق بالمرافعات الجنائية.
7-إن الدعاوي المتعلقة بالعقارات إذا كان الطالب أو المطلوب فيها من الأشخاص الراجع أمرهما للمحاكم الفرنسية تكون من اختصاصات المحاكم الفرنسية المذكورة.
8-إن جميع القواعد المتعلقة بتنظيم المحاكم العرفية وتركيبها وسير أعمالها تعين بقرارات وزارية متوالية تصدر بحسب الأحوال وما تقتضيه المصلحة.
كان هذا الظهير من توقيع المقيم العام، لوسيان سان، والصدر الأعظم، محمد المقري. لقد أحست الدوائر الاستعمارية أن الظروف التي كان يمر بها المغرب مع بداية الثلاثينيات ليست مما يبعث على الاطمئنان، حتى وإن كان مخطط «التهدئة» يشرف على أطواره النهائية. وتحسبا لانفجار ردود الفعل الوطنية والدولية الساخطة كانت الإقامة العامة تختبر مدى قدرة أطرها على استباق الأحداث وتلقي الضربات. والواقع أن مجمل التوقعات قد تم استعراضها وتحليلها خلال الجلسات التحضيرية لصياغة الظهير النهائية، وكان الانطباع السائد عند ضباط الشؤون الأهلية أن الأمور ستأخذ مجراها الكولونيالي العادي وأنه لا تخوف من محيط اجتماعي مغربي لم تعد نقاط ضعفه لتخفى على مصالح الاستخبارات التي كان يشرف عليها ضباط الشؤون الأهلية.
ملاحظات استعمارية حول إصلاح العدلية البربرية
لم تقم الإقامة العامة بنشر الظهير البربري حتى تأكدت أنها استوفت كل النقاشات الهادفة إلى مراجعة السياسة البربرية وإعطائها قفزة نوعية كفيلة بإرضاء الأطماع الاستعمارية المتصاعدة. وهكذا تم تسهيل تبادل الآراء والأفكار بين مختلف الإدارات في إطار لجنة تأسست خصيصا لهذا الغرض. والجدير بالملاحظة هو أن كل التساؤلات والتعقيبات التي أدلى بها أعضاء اللجنة كانت تفترض ضمنا أن المغاربة عبارة عن غنيمة كولونيالية تعمل فرنسا على توزيعها، وكان التعبير عن بعض التخوفات فقط بدافع تحسين أداء المنهجية الكولونيالية وترشيد العمليات المبرمجة.
وانسجاما مع هذا التوجه قال رئيس محكمة الاستئناف: «ابتدأ العمل في إطار العدلية البربرية بطريقة مجانية، وشرع في تطبيقها دون نص قانوني صريح، فإذا كان ظهير 1922 الخاص بمسألة العقارات في بلاد العرف أتى بنتائج حسنة، كان علينا لزاما تعزيز ظهير 1914 بظهير سلطاني آخر يعترف بالوجود القانوني للجماعة، ويعترف بصحة أحكامها، ويلزمها بتنظيم ومراقبة ميزانيتها».وقال الجنرال نوكيس، وكان آنذاك المدير العام للشؤون الأهلية والمسؤول عن المخابرات العسكرية: “إن دراسة تنظيم العدلية البربرية أمر مستحيل”. ولعله كان يعني بذلك أن التشريع الكولونيالي لا يحتاج إلى دراسة وإنما إلى تطبيق برغماتي فحسب.
وقدم المحامون الفرنسيون مذكرة يطالبون فيها بتوسيع دائرة «الإصلاحات» لتشمل العدلية الشريفة، ومنها ما جاء على لسان بيكار: «يعتقد المحامون الفرنسيون في المغرب أن الغرض الذي يرمي إليه الظهير هو إنشاء عدلية فرنسية في البلاد البربر وتطبيق العرف المحلي الذي تجتهد الإدارة وتحاول تطويره وتوجيهه في طريق المدنية الحديثة، ويلفتون نظر اللجنة إلى ضرورة متابعة إصلاح العدلية الشريفة في نفس الوقت الذي يتابع فيه إصلاح العدلية البربرية، وهم يخشون أن يكون إنشاء المحاكم العرفية البربرية الخالصة مضرا بإصلاح العدلية الشريفة وتوجيهها توجيها فرنسيا خالصا». وكان رئيس إدارة المراقبة المدنية يرى أن البداية يجب أن تكون بإقامة محكمة فرنسية بالخميسات وأنه لا مانع يمنع ذلك.
ومن موقع تجربته الميدانية بناحية فاس، قال الضابط الترجمان كييو: «إن العرف البربري يتغير من قبيلة إلى أخرى، وهذا التغيير يوجد حتى في مسائل مهمة وجوهرية، وليس من مصلحتنا إيقاف العرف في حالته الراهنة، ففي كثير من المسائل يلزم تطوير العرف حتى لا يبقى متعارضا مع مصالحنا، ولا يحول دون امتداد مدنيتنا، وقد دفعنا فعلا بعض الجماعات المتطورة إلى تضييق الخناق على«حق الشفعة» في أحكامها، ذلك الحق الذي ظهر في كثير من الحالات أن فيه تجاوزا للحدود». وهناك من تساءل عن «التعريف القانوني للبربري» …
وإجمالا كانت موازين القوى لصالح المستعمر. لقد فرض كل هذه الترهات بقوة الحديد والنار، وكذلك تحت ستار التعتيم والتضليل. إلا أن تداعيات الظهير البربري وانعكاساته الداخلية والخارجية كانت بمثابة صفعة ملتهبة أفقدت المستعمر غروره وعناده.
ردود الفعل الوطنية
لقد تميزت قضية الظهير البربري بملابساتها الاستعمارية والتبشيرية، وبانعكاساتها الاجتماعية والثقافية، وبتداعياتها السياسية الوطنية والدولية، وتمخض عن تفاعلاتها انفجار عاصفة إعلامية كانت هي الثانية من نوعها التي عرفها المغرب خلال الثلث الأول من القرن العشرين، بينما كانت الأولى هي تلك التي سجلتها حرب الريف بفارق خمس سنوات فقط. وطبعا كانت ردود الفعل حيال الظهير البربري صاخبة ومتباينة، وكان سياقها الكولونيالي مطبوعا بقمعه لأدنى الحقوق وكبته لأبسط الحريات. وأما من الناحية الكمية فيمكن القول بأن حصيلة تلك الردود تجاوزت بكثير كل توقعات الإقامة العامة، وفاجأت سلطات الاحتلال بأصدائها العالمية.
الحركة الوطنية ترفع شعار”اللطيف”
أمام هول الفاجعة وفظاعة النازلة يكون رد الفعل الطبيعي للإنسان بصفة عامة هو اللجوء إلى صميم الإيمان والتفكير مليا في سر الوجود وحتمية الفناء، وفي حالات من هذا القبيل عادة ما يردد الإنسان المغربي عبارة «لا حول ولا قوة إلا بالله». وهذا هو نفس الإحساس تقريبا الذي عبر عنه الشارع المغربي بمجرد ما تم اطلاعه على فحوى الظهير البربري.
وماذا عساه كان أن يفعل؟ لقد عم الطغيان واستفحل جبروت الاستعمار. ولكن رغم ذلك بقي للشعب المغربي بصيص أمل تغذيه روح العزة والكرامة التي كانت تدفعه إلى الصمود مهما عظمت الشدائد وكيفما كانت العقبات. وهكذا في غضون أيام قلائل تكونت تلقائيا حركات التنديد الشديد بما قام به الاستعمار من أمر شنيع، وحتى لا تبقى الحركات الاحتجاجية عشوائية وغير منظمة، وبالتالي ضعيفة التأثير، كان لابد لها من نقطة ارتكاز تحظى بإجماع المغاربة الوجداني وتوقد فيهم ذلك الحماس الروحاني، فكانت هي المسجد بيت الله، ومنه تعالت الدعوات التعبوية التي حملها هذا الشعار المعبر عن روح الإخاء الصادق وعمق الاستياء الناطق: «اللهم يا لطيف نسألك اللطف فيما جرت به المقادير، وألا تفرق بيننا وبين إخواننا البرابر».
وكانت أجواء الاستنكار وما واكبها من مجهودات تعبوية توحي بأن الظهير البربري كان بمثابة الشرارة التي أشعلت فتيل مقاومة مغربية من نوع جديد، تحتل فيها العناصر الشابة المتعلمة مكان الريادة.
ولا شك أن في ذلك نوعا من المبالغة. صحيح أن الانتفاضة الشعبية المناهضة لهذا الظهير شكلت محطة من الأهمية بمكان في سجل الكفاح السياسي ضد القوى الاستعمارية، ومنها تفتقت المواهب النضالية للشباب المغربي المستنير. لكن ما يجب الإشارة إليه هو أنه لا وجود آنذاك لما سيسمى لاحقا ب “الحركة الوطنية” بمفهومها الإيديولوجي المؤسساتي، هناك فقط تدمر عارم اجتاح الشارع المغربي عقب انهزام الانتفاضة الريفية بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي.
لقد كانت الحسرة والتضرع إلى الله لرفع بلاء الاستعمار عن البلاد هو ما ميز الوعي المغربي حينها، ولا شيء غير ذلك. وفي خضم تلك الحركات التنديدية بدأت بعض الأسماء تتصدر قائمة أولئك الذين كانت المصالح الاستخباراتية التابعة للإدارة الأمنية الكولونيالية تقتفي آثارهم وتترصد تحركاتهم وتصرفاتهم. وطبعا كان مآل الكثيرين منهم هو النفي والسجن والتعذيب.
ومن بين هذه الأسماء نجد عبد اللطيف الصبيحي، عبد اللطيف العتابي، عبد العزيز بن إدريس، علال الفاسي، محمد بن الحسن الوزاني، محمد بن عبد السلام لحلو، حمزة الطاهري، أحمد مكوار، أحمد أبو عياد، عبد الرحمان بن القرشي، عمر عبد الجليل، الهاشمي الفيلالي، محمد اليزيدي، الحسن ولد العربي بوعياد، المكي الناصري، محمد بنونة، عبد السلام بنونة، أحمد بن عبد السلام بلا فريج، عبد الخالق الطوريس، المختار احرضان، محمد اقلعي، الشيخ بن الصديق، إبراهيم الوزاني،وآخرين ممن اعتبرتهم السلطات الاستعمارية «شرذمة الزعماء».
وكانت دعاية الإقامة العامة تصورهم على أساس أنهم «في الأغلبية مجموعة غير متجانسة، فمنهم الأفاضل ومنهم الأوباش، ومنهم المتدينون ومنهم الملحدون، بعضهم على اطلاع بالثقافة الفرنسية الراقية، والبعض الآخر حبيس الثقافة الإسلامية، لقد وطدوا علاقاتهم، وغالبا ما تتم لقاءاتهم في طنجة وتطوان والرباط وفاس والدار البيضاء.
وأسفارهم تشمل بلاد المشرق وبلاد أوربا، وتنقلاتهم من المغرب في اتجاه فرنسا غالبا ما تمر عبر سويسرا حيث يساهمون في ندوات شكيب أرسلان الدعائية». وأما تأثيرهم على الشارع المغربي ومدى التفافه حول المبادئ التي تعبر عنها أنشطتهم، فإن إدارة الشؤون الأهلية تنتقص من أهميته وتتهكم على من كان يؤازرهم: «ويحوم حول هذه الشرذمة مجموعة من العناصر الحديثة العهد بانضمامها إلى قافلتهم والتي تتشكل من زمرة من الفاترين، ومن أبائهم الذين لم يعودوا قادرين على تربيتهم فاستسلموا للانبهار بشعبيتهم، إنهم بحق شرذمة من العاطلين المثقفين، المهذارين والمتشدقين، الذين لم يعد يشغلهم أي شيء سوى الكلام والكتابة ضد الإنجازات الفرنسية بالمغرب».
ورغم ظروف الاستعمار القاسية والمعاناة اليومية، يمكن القول بأنه انطلاقا من واقعة الظهير البربري شهدت الساحة السياسية المغربية تنظيما تدريجيا لجيل جديد ملتف حول ملك شاب، وذلك بهدف التصدي للواقع الكولونيالي العنيد وممارساته التخريبية. وبينما كانت التعبئة الداخلية تزداد متانة وانتشارا، كانت الأصداء الخارجية تضيف للحركة الناشئة تشجيعا معنويا زادها عزما وثباتا.
ثمار الظهير
استطاعت هذه الحركة الناشئة أن تواصل مناهضتها للاستعمار بفضل نجاحها في استعمال آليات الكفاح السياسي المتطور فكانت حملاتها، انطلاقا من قضية الظهير البربري، لا تنقصها الجوانب التنظيمية ولا تغيب عنها الهواجس التنسيقية. ومما يلفت الأنظار تلك المجهودات التي بذلتها من أجل حشد التأييد والمؤازرة من طرف منابر إعلامية عربية وأوربية، ومن طرف شخصيات بارزة من أمثال شكيب أرسلان وروبيرجون لونكي، بالإضافة إلى حصولها على مساندة من التيارات اليسارية المناهضة للاستعمار والإمبريالية. وعموما كانت إستراتيجيتها رغم ضعف الإمكانيات ناجحة جدا. لقد لعبت محاضرات بعض العناصر الوطنية في القاهرة، وباريس وجنيف دورا هاما في تنوير الرأي العام الخارجي عبر تصديها لتحريف الحقائق وتزييف الواقع، وفضحها لكل الأساليب التي دأبت الدعاية الكولونيالية على إشاعتها في شتى بقاع العالم. ووقف إلى جانب القضية المغربية علماء الأزهر وعدد كبير من الجمعيات والرابطات العربية والإسلامية في عدة مدن في المشرق العربي وحتى في أوربا، خاصة في برلين، وفيينا وباريس وجنيف.
وكانت صحافة القاهرة والإسكندرية ودمشق وحلب تفتح أعمدتها للتنديد بما تقوم به السلطات الفرنسية من تشويه وتحطيم للمقومات الثقافية والدينية للشعب المغربي. وتميزت مقالات مجلة «المغرب» الصادرة باللغة الفرنسية بمهاجمتها وانتقاداتها اللاذعة لسياسة الحماية الغاشمة. ومن جملتها مقال تحت اسم مستعار لعمر عبد الجليل يقول فيه: «إننا بمقاومتنا للسياسة البربرية نريد تقريب عناصر الشعب المغربي وتوحيده، نريد محاربة مبدأ التجزئة الماكيافيلي الذي يتفنن في نشره ممثلو فرنسا العسكريون والدينيون، نريد أن نمنع فبركة كتلتين شعبيتين مغربيتين متناقضتين وفقا لإستراتيجية المستعمر، نريد ضمان ممارسة حرية التفكير والتعبير للمواطنين المغاربة جميعا بكيفية جديدة».
وكان أول المؤشرات على التصدع النسبي الذي لحق بالجبهة الكولونيالية هو الانفصام المحتشم بين الحركة التبشيرية والحركة الاستعمارية، بحيث كان الظهير البربري بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير بالنسبة للدعاية الكاثوليكية بالمغرب التي بدأت في التراجع منذ ذلك التاريخ.
وأصبح يوم 16 ماي من كل سنة مناسبة وطنية لتجديد الاستنكار والتنديد، ولم تعد التظاهرات تكتفي فقط بالمطالبة بإلغاء الظهير البربري المشؤوم، وإنما تبلورت في خضمها مطالب جديدة معقلنة وجريئة، وكان بديهيا أن تشكل حرية التعبير بمفهومها القانوني والسياسي عنق الزجاجة بالنسبة للحركة الوطنية المغربية الناشئة التي ناضلت تحت وطأة الاغتيالات والسجن والنفي والقمع والتعذيب. لكنها عرفت كيف تخترق الستار الحديدي للدعاية الكولونيالية المفروضة عبر دفاعها المستميت عن عدالة قضيتها في الداخل، متجاهلة الحدود الاستعمارية المصطنعة، وفي الخارج على مستوى البلدان الشقيقة والمتعاطفة، وفي كل المحافل الدولية والتنظيمات المناهضة للحركة الاستعمارية. لقد تعلم المغاربة تنظيم الحملات الإعلامية وكتابة المقالات الصحفية الهادفة وتحرير برقيات ومناشير التنديد، تعلموا كيف يؤسسون الجمعيات الثقافية والحركات الكشفية والأحزاب السياسية. كان هدفهم نشر الوعي الوطني في كل الأوساط الاجتماعية خدمة لاستقلال البلاد وتحقيقا للانعتاق وكرامة المواطن المغربي. وكان من بين إفرازات أجواء القمع التي طالت مختلف شرائح المجتمع المغربي تلك العبارة المشهورة «تتكلم في السياسة !؟» التي لم تكن مجرد نكتة بل اتهاما خطيرا، كثيرا ما كان يسفر عنه مزيد من الاضطهاد ومصادرة أبسط الحريات. لقد كان الظهير البربري تلك الشحنة اللازمة لهذا التوجه وتلك الصدمة الكهربائية التي تجعل المرء يقول “لعل في كل نقمة نعمة”…
التاريخ بمنهجية لماذا وليس بمنظور كيف
لا شك أن يوم 16 ماي 1930 سيبقى منقوشا في الذاكرة المغربية بتساؤلاته الخطيرة. ويبدو أن الردود التي خلفها الحدث هي التي استأثرت باهتمام أجيال ما بعد الاستقلال نظرا لكميتها الهائلة من جهة، ونظرا لتأثير تلك الكمية على واضعي المراجع الدراسية التاريخية من جهة ثانية، ناهيك عما يحدثه ذلك من تشويش على المقومات الأساسية للهوية المغربية، من قبيل المغالطات التاريخية التي قد يتم توظيفها عنوة أو عن غير قصد في سياق تجاذبات أطراف سياسية تبحث عن موقع مريح لها في مؤسسات مغرب ما بعد الاستقلال. إنه بالإمكان تخصيص سلسلة حلقات من المقالات اليومية الضافية لمختلف ردود الفعل المترتبة عن قضية الظهير البربري، وذلك على مدار سنتين أو ثلاث سنوات بدون انقطاع، ولكن ما الفائدة من التركيز على الردود الوصفية للفعل دون البحث عن أسباب ومسببات الفعل؟ وبعبارة أوضح إن التاريخ ليس عبارة عن سلسلة من ردود الأفعال لأحداث وقعت، ولكنه على عكس ذلك مدرسة لتحليل تلك الأحداث وأخذ العبرة من تجربة الماضي. ومن هذا المنظور، فإن قضية الظهير البربري لم تكن سوى نبتة تفتحت براعمها في ثلاثينيات القرن العشرين لبذرة تم زرعها منذ عشرات من السنين خلت، بحيث كان اجتثاثها رهينا باجتثاث من يرعاها ويوفر لها الظروف الملائمة لنموها.
وعليه فإن نمذجة التساؤلات بغية اكتشاف كنه ماذا حدث يجب أن تنطلق من سؤال لماذا حدث ذلك؟ وليس الوقوف المستسلم عند كيف حدث ذلك؟ لأن تغليب سؤال «كيف؟» في التحليل يفرض علينا حتما أسلوبا للتعامل مع الأحداث ليس بالاستناد إلى موقعنا كفاعلين، وإنما فقط بالاستناد إلى كوننا منفعلين ومتأثرين، وهذا الأسلوب بالضبط هو الذي ينتج ويشجع ثقافة ردود الفعل العقيمة أو المضللة دون الأخذ بعين الاعتبار مواجهة كل التحديات الآنية والمستقبلية من منطلق تميزنا الثقافي والحضاري وضرورة محافظتنا المصيرية على استمرارية تلاحم مكوناته .