الرباط-عماد مجدوبي
يوم طويل عاشته مدينة الفنيدق بعد محاولات مكثفة للمئات من الشباب لدخول مدينة سبتة المحتلة، بشكل فاجأ الجميع خاصة ما يتصل بفئات المشاركين في هذا المخطط الجماعي، والذين كان من بينهم عدد كبير من القاصرين.
ولتفكيك أبعاد هذا التحول في عمليات الهجرة، أجرت “24 ساعة” حوارا مع عياد أبلال، الأستاذ الجامعي المختص في علم الاجتماع واتثربولوجيا الثقافة، والذي سلط الضوء على عدد من المؤشرات الدالة التي تدق ناقوس الخطر حول هذه التحولات.
فجأة انتشرت دعوات لتنفيذ هجرة جماعية نحو سبتة. ما خلفية هذه الدعوات التي انتشرت في وسائط التواصل الاجتماعي؟
بداية لا يجب أن نركز على المعلول وننسى العلة، فالدعوة إلى الهجرة لاحقة للرغبة فيها، ومن هنا فالحديث يجب أن يتأسس على البحث في الرغبة في الهجرة، وهي تعبير عن تضخم مستويات اليأس والخوف من المستقبل في المغرب بالنسبة إلى الشباب. وهذا الشعور بات يحتد في السنوات الاخيرة، بالنظر إلى ارتفاع مستويات الأسعار وتضرر القدرة الشرائية وتراجع التضامن الاجتماعي العائلي وتقلص سوق الشغل الذي بات سنة عن أخرى، خاصة مع حكومة السيد عزيز أخنوش، يفقد مئات الالآف من مناصب الشغل في القطاع الفلاحي والصناعي والتجاري وفي قطاع الخدمات، وهو ما عبرت عنه عدد من الدراسات والتقارير الوطنية والدولية على حد سواء. بيد أن هذه الرغبة في الهجرة تخفي بنية محايثة مهمة للقائمين على تدبير وتسيير الشأن العام، وهي بنية تتجلى في انتقال الشباب من طور بناء الرغبة إلى طور الإرادة، يعني لم يعد الشباب فقط يرغب في الهجرة كما كان الحال منذ عقود سابقة بشكل فردي، خاصة في ظل الحلم بالفردوس المفقود، بل صارت هذه الرغبة إرادة قوية، وهو ما يعني أننا أمام أجيال رافضة للنسق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي للبلاد. وهنا تصبح كل شعارات التنمية والعدالة الاجتماعية فاقدة للمبنى والدلالة في قاموس هؤلاء الشباب بسبب اليأس. لكن الأخطر هنا هو تحول الإرادة الفردية إلى إرادة جماعية بما يعنيه ذلك من إجماع شبابي على رفض النسق السياسي المسؤول عن تدبير السلطة والثروة، بالنظر إلى فشل مخرجات التنمية وتأثيرها على الشباب وعلى عدد من الأوساط الشعبية، خاصة في ظل مغرب النمو الذي يعني مغرب المال والاعمال والمحظوظين، ومغرب التنمية المستديمة الذي يهم مختلف فئات الشعب، خاصة المهمشين والفقراء. وما يعكس ذلك هو ارتفاع نسب البطالة في صفوف الشباب من المتعلمين وذوي الشهادات العليا. مقابل الخوف من الغد في ظل غياب مؤشرات حقيقية للتغيير، وخاصة مؤشرات الأمان المرتبطة بالعدالة الاجتماعية، وهذا لا يعني أن الفقر هو المسؤول عن الهجرة السرية بقدر ما يعني غياب مؤشرات الأمان الاجتماعي والاقتصادي والخوف من المستقبل لغياب العدالة الاجتماعية وأفول قيم الاستحقاق والمجهود والمسؤولية والمحاسبة.
فيما يكمن التحول الثالث في هذه الدعوة في انتقال الوعي السياسي والاجتماعي بقضايا الهجرة والتنمية والعدالة الاجتماعية من الواقع إلى المواقع، بالنظر إلى دور شبكات التواصل الاجتماعي في التعبئة والتواصل، وهي دعوة تعكس قدرة خوارزميات هذه الشبكات على التعبئة والتحشيد والتجييش، وهو ما يجب أخذه بعين الاعتبار من خلال توظيف هذه الشبكات نفسها في تعبئة الشباب والرقي بوعيهم المجتمعي والتأطير السياسي بدل ترميز التافهين. ولهذا فهذه الدعوة للهجرة الجماعية هي دعوة لإعادة النظر في المشروع المجتمعي المغربي على قاعدة حوار وطني جاد ومسؤول حول التنمية والثروة والمسؤولية السياسية، وهو ما بات يتطلب بإلحاح تغييرا جذريا في رؤية النظام السياسي.
التحول الرابع في هذه الدعوات هو انتقال الهجرة من بعدها الفردي إلى العائلي بحيث بتنا نعاين هجرة أسرة بكاملها، خاصة الام والأبناء، وهو ما يعكس تضرر الاسرة من العنف الاقتصادي الذي تمارسه الدولة، وهذا التحول محايث للنوع الاجتماعي حيث باتت النساء اكثر رغبة في الحريك، وهو ما يشمل بالنهاية رفضا جماعيا للوطن والبلاد بعدما أصبح الوطن لفئة من الأغنياء والمترفين المنعمين باقتصاد الريع، وتحول باقي الشعب إلى خدم ووسائل للانتاج ضمن مشروع نيوليبرالية المناولة التي باتت تميز المغرب مع حكومة رجال الأعمال.
وهذا لوحده يكفي لنقول بأن هذه الحكومة قد وضعت مع سبق اصرار وترصد العهد الجديد موضع المساءلة. وعليه وجب بناء تعاقد سياسي جديد في المغرب على أسس الديموقراطية التشاركية ودولة الحق والقانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وكل تأخير معناه أن ضريبة التغيير ستكون مكلفة للغاية
ما الذي يؤجج عمليات التحريض على الهجرة رغم استحالتها بهذه الطريقة والمخاطر الكبيرة التي يواجهها الشباب؟
ما يؤجج هذه الدعوات هو الحس المشترك بالمصير المشترك، خاصة بالنسبة إلى الشباب والقاصرين، واجتماعهم على الإحساس بالحكرة واليأس وغياب الأفق. وهنا مكمن الخطورة. ذلك أن هناك أزيد من ثلاث ملايين شاب مغربي ما بين 18 و 28 سنة لا يتابعون دراساتهم ولا أي تكوين أو عمل وهي قنبلة موقوتة. أضف إلى ذلك أنه حسب دراسة أجريت سنة 2022 هناك 67 في المئة من الشباب لا يثقون في الحكومة وفي السياسيين ووعودهم، وإذا أضفنا إلى ذلك انقطاع حوالي 350 الف تلميذ سنويا عن التعليم في إطار الهدر المدرسي نكون فعلا أمام وضع كارثي يشرح ما يحدث الان.
ما مسؤولية الأحزاب السياسية أغلبية ومعارضة عن تنامي هذه الظاهرة؟
بما أن الأمر يتعلق بقضايا متصلة في العمق بالتدبير والتسيير، أي بالتدبير السياسي، فإن غياب الثقة في السياسيين وفي طبيعة التنمية وفي المستقبل، يعني تضرر مستوى الثقة في السياسة وفي البلاد. وهنا نكون رأسا أمام قضية سياسية قبل أن تكون اجتماعية واقتصادية بالنظر إلى تمتع المغرب بمؤهلات طبيعية وبشرية مهمة. ومقابل ازدهار وضع طبقات اجتماعية مقارنة بتدني مستوى معيشة طبقات أخرى، فإننا هنا أمام تطورات ورؤى تنموية وسياسية هي من صميم عمل الأحزاب والحكومة. ولذلك فنقاش دعوات الهجرة الجماعية يجب أن تكون في صلب النقاش السياسي اليوم.
وبما أن التدبير الديموقراطي يقتضي مشاركة المعارضة وكافة مؤسسات الوساطة المدنية، فإن مسؤولية أحزاب المعارضة ثابتة فيما يحدث الآن.
وإذا كانت رؤية الحكومة الليبرالية تقتضي الانشغال بمغرب النمو والتوازنات الماكرو اقتصادية حماية للرأسمال ولفئة المال والأعمال، فإن المعارضة من اللازم أن تحرص على مغرب التنمية والعدالة الاجتماعية، لكن الملاحظ أن هناك عجزا ديموقراطيا حكوميا وانحباسا سياسيا في صفوف المعارضة التي باتت بدون مشروع مجتمعي ومنفصلة عن هموم الشعب. وصمتها يعكس غياب البديل لديها بما يجعل المعارضة والحكومة يعانيان من انعدام الخيال السياسي الذي يجعلهما قادرين على ايجاد الحلول وابتكار البدائل في سياق ديموقراطي حقيقي.
وهو سياق يغيب بالنظر إلى موت المثقف والفضاء العام وافول صوت المجتمع المدني وانتصار صوت التفاهة والانحلال الخلقي والانهيار القيمي للسلوك المدني والوطني. الخطير في الأمر أمام ما تحمله شبكات التواصل الاجتماعي من قدرة على التجييش والتعبئة وفي غياب توجيه بيداغوجي سياسي، فإنه من ممكن جدا عودة هبات جديدة لحركات اجتماعية هي الآن في طور الكمون.
ولذلك على الدولة والنظام السياسي أن يعملا على تقوية المعارضة وتهييىء الفضاء العام للنقاش المجتمعي، فقد يأتي يوم تبحث فيه الدولة على معارضة نزيهة وقوية قادرة على تأطير الجماهير ولن تجدها. وهنا يكمن الخطر، خاصة أمام غياب البديل السياسي في الافق المنظور.
إن تضخم مستويات هذه الدعوة للهجرة الجماعية يعني بشكل قاطع غياب مفهوم الدولة الاجتماعية التي تدعيها حكومة السيد عزيز أخنوش. كما تعني أن خيارات الدولة ورهاناتها تختلف جذريا عن رؤى مغرب شباب اليوم، وهو ما ينذر باتساع المسافة بين الدولة والمجتمع ويحبل بتضخم مستويات الصراع والرفض وانعدام الثقة وهي مؤشرات قابلة للتضخم كلما تبدد الخيارات الديمقراطية وتقلصت مستويات الخيال السياسي مع أحزاب تعاني من العجز الديموقراطي.