بوسلهام عيسات
وجه الملك محمد السادس خطابا ساميا إلى أعضاء مجلسي البرلمان بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الرابعة من الولاية التشريعية الحادية عشر، وهو الخطاب الذي يعد منعطفا جديدا مؤسسا لدبلوماسية متعددة المسارات حول التعريف بالقضية الوطنية الأولى والترافع عنها في مختلف المحافل الدولية.
ويعكس تخصيص جلالته لقضية الصحراء المغربية كموضوع مركزي في خطابه الموجه لمجلسي البرلمان، مجموعة من الدلالات التي يمكن إدراجها وفق ما يلي:
الدلالة الأولى:تتجسد في رمزية البرلمان كمؤسسة تشريعية تمثيلية منتخبة، يقدم من خلالها الملك تطورات ملف الصحراء المغربية لعموم المواطنات ومختلف الهيئات والمؤسسات وباقي الدول، بما يعكس روح الإجماع الوطني بين الملك وشعبه حول عدالة القضية الوطنية؛
الدلالة الثانية:رسالة موجهة إلى مختلف خصوم الوحدة الوطنية للمملكة في سياق انحراف محكمة العدل الأوروبية بناء على بواعث وظروف قانونية مشبوهة يشوبها العور، أمام معاكسة صريحة من قبل جهاز أوروبي عن المواقف السياسية والدبلوماسية لدول الاتحاد الأوربي التي تقر بمغربية الصحراء ومقترح الحكم الذاتي كأساس وحيد لتجاوز النزاع المفتعل؛
الدلالة الثالثة: تذكير صريح بالإطار المرجعي الذي حدده جلالة الملك، بكون قضية الصحراء المغربية تعد النظارة التي ينظر بها المغرب إلى العالم، وبأنها معيار قياس صدق الصداقات ونجاعة الشراكات، وبأنها المعيار الوحيد والأوحد للانخراط في أي شراكات استراتيجية مستقبلية مع أي بلد من بلدان العالم.
ولعل تأكيد جلالته بالقول“…لقد قلت، منذ اعتلائي العرش، أننا سنمر في قضية وحدتنا الترابية، من مرحلة التدبير، إلى مرحلة التغيير، داخليا وخارجيا، وفي كل أبعاد هذا الملف.ودعوت كذلك للانتقال من مقاربة رد الفعل، إلى أخذ المبادرة، والتحلي بالحزم والاستباقية…”، يعد أكبر تجسيد لمجهودات الدبلوماسية الوطنية منذ اعتلاء الملك محمد السادس عرش أسلافه المنعمين لمواصلة مسيرة البناء والنماء التي بدأها جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طيب الله ثراه، والتعريف بعدالة القضية الوطنية وبالحقوق التاريخية والمشروعة بالصحراء المغربية.
كما أن ذلك تأكيد لتغير منظور التعامل مع القضية الوطنية الأولى، انطلاقا من تدبير الملف نحو تبني تغيير متعدد الأبعاد سواء من الناحية الداخلية عبر قيادة مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية لأقاليم الصحراء المغربية وتعزيز جاذبيتها وإشعاعها الاقتصادي، أو من الناحية الخارجية بجعلها قطبا للإشعاع الاقتصادي ومنصة للانفتاح نحو الفضاء الأطلسي والأوروبي، ومركزا لتقوية التعاون جنوب-جنوب الذي أسس له جلالته بقيادته المتبصرة للدبلوماسية الخارجية للمملكة وفق منظور متعدد الأبعاد.
وقد حمل الخطاب الملكي السامي منعطفات جديدة تؤسس لدبلوماسية متعددة المسارات، من أجل ترصيد المكتسبات، والدعوة إلى تقوية الجبهة الداخلية عبر تعبئة مختلف الفاعلين للدفاع عن القضية الوطنية، وهي المنعطفات التي يمكن تقديمها كما يلي:
المنعطف الأول: تعبئة وطنيةشاملة من أجل قضية الصحراء المغربية
تضمن الخطاب الملكي السامي تشخيصا دقيقا للمنجزات التي تم تحقيقها في مسار القضية الوطنيةككسب اعتراف دول دائمة العضوية بمجلس الأمن كفرنسا كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وباقي الدول الأوروبية والعربية والافريقية، والدول التي فتحت قنصلياتها في مدينتي الداخلة والعيون، وهي الدول التي تساند بكل وضوح الوحدة الترابية للمملكة.
وفي نفس السياق دعا الخطاب الملكي إلى بذل المزيد من الجهد بصيغة الجمع، حيث أكد جلالته“.. رغم كل ما تحقق، فإن المرحلة المقبلة تتطلب من الجميع، المزيد من التعبئة واليقظة، لمواصلة تعزيز موقف بلادنا، والتعريف بعدالة قضيتنا، والتصدي لمناورات الخصوم...”.
وتأسيسا على ذلك، يمكن القول إن الخطاب الملكي حدد الرهانات والآفاق المستقبلية للدفاع عن القضية الوطنية، والتي تتطلب تظافر الجهود وتعبئةً وطنيةً شاملة تستند إلى دبلوماسية متعدد المسارات، يقوم فيها البرلمان والأحزاب السياسية والجماعات الترابية والمنظمات المدنية بالأدوار المخولة لهم، ولاسيما في ضوء المكانة الدستورية التي أصبح يتبوأها البرلمان والمجتمع المدني والجماعات الترابية.
ومن تم فإن عنوان هذه المرحلة الجديدة يتطلب تجند الفاعلين الجدد في مسار الدبلوماسية الوطنية من أجل استثمار المكتسبات التي تم تحقيقها، مع توسيع دائرة المعنين بذلك كونها موجهة كذلك إلى المواطنات والمواطنين كأشخاص ذاتيين يشملون دائرة المثقفين والمبدعين والأبطال والفنانين وغيرهم.
مع التذكير إلى أنها ليست المرة الأولى التي يؤكد فها جلالة الملك بأن “…قضية الصحراء ليست فقط مسؤولية ملك البلاد وإنما هي أيضا قضية الجميع: مؤسسات الدولة والبرلمان والمجالس المنتخبة وكافة الفعاليات السياسية والنقابية والاقتصادية وهيئات المجتمع المدني ووسائل الإعلام وجميع المواطنين…”.
كما أن ارتباط المغاربة بقضيتهم الوطنية وتشبتهم بأهداب العرش العلوي المجيد، يجعلها تتخطى الإطار السياسي والاقتصادي والاجتماعي لترتبط بالأهل والعرض وتلبس رداء المعتقد والمقدس، وتشكل في الوعي والموروث الجمعي قضية الوطن الأولى، وبعداً أعمق في الضمير والوجدان المغربي.
وهوما يفيد بأن التعبير الوجداني عن حب الوطن والذود عنه، والارتباط بمقدساته الدينية والوطنية يقتضي ضرورة المبادرة والالتزام ومزيداً من التعبئة الوطنية وفاءً وبراً بقسم المسيرة الخالد: أقسم بالله العلي العظيم أن أبقى وفيا لروح المسيرة الخضراء مكافحا عن وحدة وطني من البوغاز إلى الصحراء، أقسم بالله العلي العظيم أن ألقن هذا القسم لأسرتي وعشيرتي في سري وعلانيتي والله سبحانه هو الرقيب على طويتي وصدق نيتي.”
المنعطف الثاني: اليقظة الدبلوماسية
إن الخطاب الملكي السامي يجعلنا نتوقف عند التراكم الكبير الذي عرفته قضيتنا الوطنية منذ اعتلائه عرش أسلافه المنعمين، ويذكرنا أيضا بجيل ردد قسم المسيرة الخضراء، القسم الخالد الصادق المنبثق عن قلوب مؤمنة بعدالة القضية الوطنية، وهو الأساس الذي ينبغي أن يشكل أساسا لإلهام الأجيال المستقبلية لمواصلة المسيرة وللذود عن حمى الوطن.
لذلك أكد الخطاب الملكي على أهمية التنسيق بين المبادرات، وهو الأمر الذي سيمكن الفاعلين الجدد في مسار الدبلوماسية من استيعاب أدوار الفاعلين في العمل الدبلوماسي وتقوية الدبلوماسية غير الحكومية البرلمانية والحزبية والجمعوية والاقتصادية والثقافية والإعلامية، وذلك بغية تحقيق الانتشار والتواجد المضطرد بالفضاءات الجديدة التي لطالما يستغل خصوم الوحدة الترابية غياب باقي الفاعلين عنها.
ومن ثمة، فإن اليقظة الدبلوماسية انطلاقا من أدوار الفاعلين المومأ إليهم، تتطلب مزيدامن الحرص والجهد الدبلوماسي من أجل مواجهة أطروحة الوهم والانفصال، والأفكار المعادية للوحدة الوطنية، داخل الفضاءات الجغرافية التي لازالت لم تقتنع بعد بأفول وهم الجمهورية الذي يسوق له الخصوم.
وهو ما جعل الخطاب يشير إلى ضرورة شرح أسس الموقف المغربي للدول التي لازالت تسير ضد منطق الحق والتاريخ، والعمل على إقناعها بالحجج والأدلة القانونية والسياسية والتاريخية والروحية التي تؤكد شرعية مغربية الصحراء.
فضلا عن ضرورة الانتباه والتصدي في المؤتمرات واللقاءات والمؤتمرات الدولية والإقليمية التي تشارك فيها الوفود البرلمانية ومختلف المؤسسات والهيئات السياسية أو منظمات المجتمع المدني، إلى خصوم الوحدة الوطنية ومواجهة الطروحات التي تعادي الوحدة الترابية، سيما وأن الخصوم يقومون بمحاكاة نفس السلوك الدبلوماسي للمملكة لتقويض المنجزات أو دفع دول وغيرها من إعادة تقييم أو تغيير موقفها إزاء الصحراء المغربية.
المنعطف الثالث: مداخل الدبلوماسية المتعددة المسارات
تضمن الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية لمجلسي البرلمان، مجموعة من المداخل الأساسية المؤسسة لفعل دبلوماسي متعدد المسارات والتي يمكن إجمالا تقديمها في النقاط الآتية:
- تظافر جهود المؤسسات والهيئات الوطنية: يذكرنا هذا المدخل بالخطاب الملكي السامي بمناسبة افتاح الدورة التشريعية لمجلسي البرلمان لسنة 2013 معتبرا جلالته بأن قضية الصحراء المغربية ليست مسؤولية ملك البلاد وإنما هي قضية الجميع، بما يعني الحرص على تظافر جهود جميع المتدخلين من المؤسسات من برلمانٍ وأحزابٍ سياسية ومجالسٍ منتخبة وفعالياتٍنقابية واقتصادية، وكذا المجتمع المدني ووسائل الاعلام وعموم المواطنات والمواطنين؛
- التنسيق شرط لتحقيق نجاعة التدخلات: ركز الخطاب الملكي على أهمية التنسيق بين مختلف الفاعلين انطلاقا من زاوية نظر أفقية تتضمن البرلمان بمجلسيه والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والهيئات النقابية والاقتصادية، حتى يتسنى توحيد الخطاب ومناهج وأساليب ومرجعيات العمل والترافع، وبعدها العمل بشكل عمودي حسب مجالات اشغال وتدخل كل فاعل من بين الفاعلين على حدة؛
- الهياكل الداخلية والموارد البشرية المؤهلة بمجلس البرلمان: دعا الخطاب الملكي إلى المزيد من التنسيق بين مجلسي البرلمان في إطار ممارسة الفعل الدبلوماسي البرلماني، ووضع الهياكل الداخلية المؤهلة بالموارد البشرية المتخصصة في المجال الدولي والدبلوماسي والقانوني، حتى يتسنى تقوية الوظيفة الدبلوماسية للبرلمان وجعلها ممارسة دبلوماسية فعالة وقائمة على العلم والمعرفة؛
- الكفاءة والاختصاص في اختبار الوفود: ركز الخطاب الملكي على إعمال معيار الكفاءة والاختصاص في اختيار الوفود البرلمانية المشاركة في المؤتمرات البرلمانية والإقليمية.
ونافلة القول، ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الخطاب الملكي السامي يعتبر بمثابة دعوة فعلية إلى تعزيز الدبلوماسية المتعددة المسارات كاختيار لا محيد عنه من أجل الدفاع عن القضية الوطنية، وهو ما يتطلب حسا تواصليا ونظرة استراتيجية وقدرة على التركيب والمزج بين الأحداث والمواقف في الساحة الدولية، بما يجعل مهمة الدبلوماسي من أي موقع كان، نافعا لبلده ومساهما في الدفاع عن المصالح والقضايا العادلة للوطن.
-باحث في الدراسات السياسية والدولية