د. ادريس قصوري
انتهى الكلام، تواتر بانسياب منقطع النظير هذه الأيام، وزخم دولي بالاعتراف بمغربية الصحراء من كلّ الوحدات الدولية ومن كلّ القارات وعلى جميع المستويات، ممّا يمكن اعتباره استفتاء دوليا وأمميا على مغربية الصحراء والحكم الذاتي، بشكل صريح وشفّاف ونزيه لم يسبق أن حصل إجماع دولي على قرار مثله من قبل.
وقد حُسِم الأمر بتبني الولايات المتحدة وفرنسا من موقع مكانتهما ودورهما وعلاقتهما بالملفّ لنتيجة هذا الاستفتاء بالإجماع، وبه وجّهت الأمم المتّحدة المبعوث الأممي وكلّفته بتنزيل الحكم الذاتي باعتباره الحلّ الوحيد والنهائي لنزاع الصحراء على أرض الواقع. وبذلك، لم يعد هناك نقاش على الحكم الذاتي أو غيره من الحلول، وإنما أصبح النقاش الدولي والمسؤولية الدولية، اليوم، ذَوَا بُعد إجرائيّ تنفيذي للحكم الذاتي؛ حيث دقّت ساعة الحزم بعد الحسم. وقد سبق للملك محمّد السادس أن قال في إحدى خطبه بأنّ المغرب لا يتوانى على صحرائه ولا على الحكم الذاتي، وإنما يبحث سُبُلَ تنزيل الحكم الذاتي وكيفية حلّ النزاع بطرق الشرعية الدولية والتي هي السلم.
أمام هذا المتغيّر الاستراتيجي الدولي والأممي، خرج عطّاف وزير خارجية الجزائر ينتقد تأكيد الولايات المتّحدة الأمريكية لمغربية الصحراء واعتبارها الحكم الذاتي هو الحلّ الوحيد والأوحد والنهائي بعد أن تمّ تصنيف البوليساريو منظّمة إرهابية.
وفي الوقت ذاته، جمع العسكري شنقريحة عساكره ليلوم بالرفض، متسلّحا بما اعتبره تجانس الوطن الجزائري، علما بأنه لم يستحضر، في كلمته بالرئاسة الجزائرية، ولم يستشر المؤسّسات الجزائرية لا من قريب ولا من بعيد، وهذا الأمر يؤكّد أن الجزائر لم تستوعب الدرس، وأنها ترقص رقصة الديك المذبوح أو الثعبان الجريح.
انطلاقا من هذا الواقع الجديد، ومن تعارض الموقف الجزائري معه، يمكن القول إن نظام العسكر الجزائري يفوّت الآن فرصة ذهبية تاريخية عليه وعلى الجزائر لتراجع ذاتها ولتتكيّف مع التحوّل الدولي ومتغّيرات النظام الدولي الذي يبني مستقبلا جديدا ويُعيد ترتيب الأوراق والقضايا والوحدات الدولية بشكل مخالف لما قبل ولعهد الحرب الباردة.
في ظلّ هذا التحوّل العالمي الجارف الذي عَميَت أعينُ الجزائر عن رؤيته، وصُمّت آذانها عن سماعه، وقُيّدت أرجلها عن ركبه ومجاراته، سنوضّح سياسة الجزائر تجاهه، وسنبيّن لماذا خسرت رهان التموضع في المستقبل.
إن ملامح نظام عالم جديد قد ارتسمت في الأفق الدولي وبدأت معاييره تترسّخ في الواقع أقوالا وأفعالا وقرارات وتفاهمات ومستويات تارة، وحتى تنازعات رؤى وتصوّرات واختلاف إجراءات بين نادي الكبار تارة أخرى، وقد أعلن الكبار عن أنفسهم وعن استراتيجياتهم، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة المبادرة في التغيير؛ فالتغيير العالمي اليوم وليد الأحداث والأزمات الدولية والانتقالات والأمراض والحروب وكوارث البيئة والتكنولوجيا والتضخّم، كلّها مجتمعة. ولهذا، فهو لن يكون مثل التحوّلات السابقة التي عادة ما كانت نتيجة متغيّر واحد أو اثنين فقط. وقد عادت سياسة القوّة لتلقي بظلالها على حلّ الأزمات الدولية والمشاكل العالمية كأداة لفعالية التفاوض، لتحصينه من التلاعبات وميكانيزمات ربح الوقت وتضييع الزمن، على غرار نمط مشكل تدبير المشكل النووي الإيراني بين أمريكا ترامب وإيران، وشكل الرهائن في ما يتعلّق بحماس وإسرائيل وأمريكا.
أمام هذا الوضع يمكن القول إن العالم رجع إلى مفهوم الدولة العظمى وليس الكبرى، تمهيدا لإعادة صياغة أسس وأفق وغايات النظام العالمي الجديد كما صرّح بذلك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في خطاب تنصيبه الجديد، يوم 20 يناير 2025؛ حيث حسم رسم ملامح نظام عالمي جديد وجعلها تخرج للجمهور في نفس اليوم، فبدأت تزحف على الساحة الدولية وتؤثّر على كلّ من تصادفه في طريقها، سياسيا ودبلوماسيا، واقتصاديا وماليا وتجاريا ونقدا، وجغرافيا وكيانات وحدودا رغم بروز العامل التجاري الاقتصادي كأوّل عامل لصورة ووجه التفاعل في البيئة الدولية، فالرئيس الأمريكي دونالد ترامب، بإعلانه الصريح عن أمريكا العظمى، ومن العصر الذهبي الأمريكي وكلّ مقوّماته ومداخله وآلياته وأدواته، قد أعلن للعالم عهد توازن عالمي جديد يقوم على توزيع جديد للقوى، وهو تغيير جديد تلعب فيه الإدارة السياسية لترامب والإدارة الأمريكية دورا حاسما، حيث أصبح للاعتبارات الجيوسياسية دورا رئيسا كما هو الشأن بالنسبة للشرق الأوسط وما صرّح به ترامب بخصوص كندا وجزيرة جرينلاند. بيد، إن ترامب في صياغة إعلانه الذي يبنيه على السلام قد ربط الإدارة بالعواقب، ووازن بين التفاوض والردع، مثل الحالة الإيرانية التي تمّ حصرها بين التفاوض الجدّي أو الضرب.
وقد بنى ترامب استراتيجيته العليا لتغيير النظام الدولي على تفكير مارتن لوثر كينغ، والتي منها التعلّم ومراجعة الذات والمفاوضات والفعل المباشر ثم التوافق، وقد عبّر عن هذا كلّه في خطابه، وحدّد الهدف من أمريكا العظمى في العصر الذهبي. وقد حدّد مصادر التدخّل والفعل والتفعيل اللازمة، وصرّح بمنع مصادر القوّة عن الخصوم، فاستمر في ضرب أدرع إيران لتحييدها وعلى رأسها الحوثيون، بعد أن أربك حسابات زيلينسكي واحتوى طموح روسيا في المساهمة في قيادة العالم وحصره في فرصة استعادة التوازن الاقتصادي والمالي الروسي.
ويمكن إبراز عناصر هذا الفكر كما يلي:
- التعلّم: بإخبار الأمريكيين بأبعاد الاستراتيجية العليا لترامب وإعلام الخصوم بذلك قصد كسب الدعم الشعبي وتأييد الحلفاء،
- مراجعة الذات: مراجعة فلسفة الفعل بقوله “لا أريد الحرب بل أريد السلام”، وأقرَّ التغيير بأحد تعهّدات إيقاف الحرب الروسية الأوكرانية،
- المفاوضات: التصريح بتفضيل المفاوضات، وخاصة مع روسيا ومع إيران؛ حيث بعث الرسائل كما بعث الوسطاء مع قائمة المطالب وخطة وزمن التنفيذ، كما أظهر قائمة التعاريف الجمركية وصاغ أمر تنفيذ ضرب إيران وقدّم تصريحا واضحا بشأنه،
- الفعل المباشر: وتتمثّل في جملة من الأنشطة والأفعال والتحرّكات والاستقبالات والمواجهات تجاه الخصوم والحلفاء، لامتياز التعاون والاستسلام أو العقاب، أو لتأكيد المواقف ومتانة العلاقات، كما أرسل الطائرات الحاسمة إلى منطقة الخليج، وفي هذا السلوك، قام ترامب باستبعاد منطق التدرّج واختار منطق المواجهة الجدية. وقد كان للزمن حضور قويّ في استراتيجية ترامب لتأكيد سرعة البداية والإلحاح على الفعل الحازم.
لقد اتّضح من خلال كل هذا، وغيره كثير، أن أمريكا لجأت إلى الفعل وليس إلى ردّة الفعل، وبالشروط الأمريكية وليس بشروط الخصم، حيث اتّضح إرساء قواعد تغيير دولي جديدة بإدارة أمريكية حرّة، فالرئيس دونالد ترامب اختار أسلوب التغيير التوجيهي الهجومي الصعب باعتباره شخصية تُنشئ الاستراتيجيات وتصنعها، مع تحمّل بعض نتائجها السلبية المؤقّتة. وبهذا، يظهر أن عقيدة ترامب وشخصيته هي الهيمنة في صناعة القرار والمبادرة إلى تنفيذه وعدم الانتظار مع استثمار المكاسب أولا بلا خسارة، واللجوء إلى الضغط من أجل التفاوض على المكسب.
في ظل هذه المعطيات يتّضح أن هدف دونالد ترامب هو تصعيد الحكم الأمريكي إلى درجاته القصوى، إلى عصر ذهبي إمبراطوري عالمي مطلق، يسجّل القرن الحادي والعشرين قرنا أمريكيا حصريا بامتياز، وليس مجرّد احتواء منافسيه مثل روسيا أو منعهم من الظهور مثل الصين.
وقد استغل، لأجل ذلك، فرصة تنصيبه لولاية ثانية وآثار هجوم السابع من أكتوبر 2024 ضدّ إسرائيل، والتفوّق العسكري الأمريكي بوصول البوارج الأمريكية الحاسمة إلى منطقة الشرق الأوسط وأصول السوق بسرعة تفعيل التعرفة الجمركية الجديدة قصد توحيد الاقتصاد العالمي في إطار الفضاء الرأسمالي بالصورة الأمريكية دون غيره من الدول والاقتصادات، كما احتمى بالأصول الدينية لتبرير نجاته من محاولة الاغتيال بحماية الرّبّ له كي يُكمل تأدية رسالته، علما أنه كان قد أوصى ابنه بالابتعاد عن الخمر والمخدّرات والوشم والشذوذ، وحصر الجنس البشري في الرجل والمرأة كَمَا هُمَا وكَمَا خُلقا ولِما خُلقا له، كما أحاط إدارته بروّاد التطور التكنولوجي، ولم ينس إعلان السيطرة على مواقع النفوذ وتأمين مناطق القوّة الاستراتيجية، وهي كلّها مقوّمات تأمين التفوّق والهيمنة التي عدّد عناصرها زيبغنيو بريجينسكي في نهاية القرن العشرين. وقد أعطت كلّ هذه المداخل المبادرة الأمريكية بعدا وقائيا استباقيا لا مثيل له قبل كل المعادلات والموازين؛ حيث انتقلت المبادرة من جدارات العزل إلى تغيير المجال الجغرافي كله والتخلّص منه في شموليته، وبات يُطبّق هذا المنطق في الشرق الأوسط وفي أوكرانيا بعدما أذعنت روسيا بعد سنوات من الاستنزاف العسكري والاقتصادي والمالي. وهو المنطق الذي سيطبّق حلاّ حاسما في أفريقيا لحلّ نزاع الصحراء المغربية لصالح المغرب كصاحب حقّ تاريخي ثابت وصديق تاريخي عريق وراسخ، في إطار التحوّل من مهادنة الدول الصغرى والحركات والكيانات المعادية لأمريكا إلى اجتثاثها وردع القوى الداعمة لها والتي تقف وراءها، في ظلّ تجديد تأكيد عولمة مكافحة الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل والدول الفاشلة مع ميزة خاصة هذه المرّة تتمثّل في عدم الاعتماد على حلف الناتو في مربّع المناطق المجاورة له، بل على اللجوء المباشر والفعلي للترسانة الأمريكية حين لا تنفع العقوبات الاقتصادية والضغوط السياسية المقبلة على الجزائر.
إنه يتأكّد، اليوم، أنه من خلال الواقع الدولي الجديد الذي تستشرفه الإدارة الأمريكية الجديدة بإرادة الرئيس دونالد ترامب، فإن جميع الوحدات الدولية فهمت مغزى حدث ما بعد السابع من أكتوبر واستوعبت الدرس من استثمار ترامب له كفرصة تاريخية جديدة كما فعل بوش زمن 11 سبتمبر 2001، إلا دويلة الجزائر وعسكرها فاقد الوعي والثقافة السياسية الدولية.
إن تصريح دونالد ترامب يوم تنصيبه الثاني قد فتح مسارات سيول تغيير وتحوّل عالم جارف يحتوي القوى المنافسة بعد استنزافها مثل روسيا، وتحجيم القوى الصاعدة اقتصاديا والتحكّم في نموّها وكبح تطوّرها مثل الصين، وضرب الدول المناوئة التي تسعى لامتلاك سلاح الرعب مثل إيران، وتحييد وتأديب الدول المشعلة للتوتّرات، مما يرسّخ الولايات المتّحدة الأمريكية قوّة عسكرية واقتصادية وديبلوماسية فريدة دوليا، وهو الواقع الذي يمكّنها من استصدار القرارات المرغوب فيها من مجلس الأمن، أو العمل بدونها لحلّ الأزمات في بُؤَر التوتّر المختلفة، بما في ذلك تجريم البوليساريو وتحميل الجزائر الراعية له مسؤولية دعمه ورعايته واستمراره إنْ لم تسارع إلى تفكيك مخيّمات صناعة الإرهاب.
في ظلّ هذا التحوّل الجذري للمتغيّرات العالمية، عملت الجزائر على مقايضة الإرادة والفعل والمبادرة الأمريكية وقرارات الرئيس ترامب من قضية الصحراء المغربية بعرض الخيرات الجزائرية على الإدارة الأمريكية، وَهْمًا منها بأنها ستكون وسيلة إغراء لمنح عسكر الجزائر فرصة الاستمرار في إشعال فتيل التوتّر والنزاعات في إفريقيا. وبذلك، فشلت حسابات الجزائر مع أمريكا كما خسرت سابقا مع إسبانيا وحاليا مع فرنسا، ولم تدرك الجزائر أن تحقيق التأثير في الموقف الأمريكي من قضية الصحراء لا تُجدي فيه الموارد الجزائرية الضّحلة، والموجودة في بقية العالم ومختلف دول إفريقيا، ولا تقارن بمصداقية الحلفاء وبمحفّزات محاربة الإرهاب الذي تدعمه الجزائر.
إن الجزائر لم تفهم ولم تستوعب أن منطق تأثير الاستجابة للتغيير الدولي يتطّلّب تغيير موقع وموقف وسلوك النظام الجزائري في السياسة الدولية تجاه جيرانها كالمغرب، ومحيطها كمنطقة الساحل خاصة، وإفريقيا عامة، وفي العالم كلّه. ذلك، أن الاستجابة الجزائرية لا تكمن في مساومة نظام فاشل بخيرات البلاد، وإنما في تغيير عقيدته وأيديولوجيته المغلقة والمتحاورة باسم شعارات كاذبة من ثوريةٍ ومقاومةٍ وشهداءَ وتقريرِ مصيرٍ.
وهذا يعني أن ردّة فعل الجزائر تجاه تحوّلات النظام الدولي وفهمها لاستراتيجية التحوّل الجذري خاطئة وغير مناسبة لمجريات الأحداث، وذلك لأنها لم تقم على أيّة إشارة من طرف الإدارة الأمريكية التي لطالما نبّهت العسكر الجزائري إلى تغيير سلوكه، بل إن السذاجة الجزائرية فهمت براغماتية ترامب ومشروعه بشكل خاطئ، ولعلّ النظام الجزائري كان مخطئا في ترجمة بعض إشارات خطاب تنصيب الرئيس ترامب، فبادرت إلى استجابة خاطئة دون أن تكون معنيّة مباشرة. ذلك أن الفجوة العميقة بين القدرات الإدراكية لنظام العسكر الجزائري لدواليب وسيناريوهات تحوّل السياسة الدولية، في ظلّ المبادرة الأمريكية، جعلها ترتكب أخطاءَ قاتلة في سياستها الخارجية تؤثّر على صورتها دوليًا، فالجزائر، في الصورة الأمريكية، لا تمتلك تاريخا ولا ثقافة ولا إرادة سياسية مبدئية ولا قِيَمًا جذّابة ولا سُمعة ولا مصداقية، فهي مجرّد نسق عسكري تقليدي مصنوع بعيدا عن النموذج العسكري المحترف، يمزج شعارات غوغاءَ ويأكل عظم شعبه، يصعب أن يتحوّل نحو الديموقراطية وأن يكون منتجا لصالح الشعب الجزائري، كما أنه يُعرقل مصالحَ وتنميةَ جيرانه في إطار حروب غير معلنة، حتى أصبح العسكر نظام تناقضات وعداءات دائمة مفقودة الثقة.
ولعلّ هذه الفوضى القائمة التي تتخبّط فيها الجزائر وليدة غياب الرؤية الاستراتيجية والنقد الذاتي ومراجعة الذات، فلا يُعقل أن تعيش دولة لأكثر من سبعين سنة على شعارات الثورة والشهداء، لزمن الحقبة الاستعمارية والحرب الباردة والاتحاد السوفياتي المندحر والثورة البلشفية والحرب الكورية، رغم تغيّر كل المفاهيم وتحوّل السياقات الدولية من الشرق إلى الغرب وتبدّل المنظومات وتجدّد العقائد؛ فالعسكر الجزائري أكّد، حتّى اليوم، بأنه علبة مُغلقة إيديولوجيا، وبنية مغلقة سياسيا غير قابلة للتكيّف ولا للتطوّر إلى دولة مدنية محايثة للتحوّلات العالمية؛ فالعسكر الجزائري غارق في أفعال إجرائية انفعالية يوميّة بلا تخطيط استراتيجي وبلا أهداف ذاتية وداخلية سوى تدهور بيئته الداخلية والمحيطة والخارجية.
بيد إن كلّ ما يقوم به عسكر الجزائر من أفعال وردود أفعال ومزايدات، يعدّ غير واقعيّ وليس له ما يبرّره ولا ما يدعو لاستمراره ولا ما يسنده في السياسة الدولية، حيث تغيب في السياسة الجزائرية كلّ مقوّمات التفكير والتخطيط الاستراتيجي المبدع داخليا وخارجيا، سواء تعلّق الأمر بالشمولية أو التنسيق أو المرونة أو التكيّف أو المراجعة أو الاستجابة أو الالتزام أو التكامل أو الاعتماد المتبادل أو الاستمرارية، سوى استمرارية التعنّت وزرع التوتّر ونشر الفوضى، فالعسكر الجزائري لا يستجيب ولا يُبدع الحلول ولا يتفاعل بجدّ، لأنه مبنيٌّ على وثوقية مَوْهُومة لا تعطيه فرصة للتقييم والمراجعة، وتسدّ أمامها إمكانية المراجعة وإيجاد البدائل المرنة والناجعة، كما قام المغرب بذلك حين قدّم مقترح الحكم الذاتي سنة 2007 لحلّ النزاع بالصحراء رغم أنها أرضه تاريخيا، فالجزائر لا تقوم بتحليل البيئة الدولية والإقليمية وما حصل فيها من تحوّلات وما استجدّ فيها من مواقف دولية تجاه نزاع الصحراء أساسا، حيث ظلّت تعاند وتسبح ضدّ التيّار، في ظلّ تحوّل الاعتراف بمغربية الصحراء وبواقعية الحكم الذاتي كحلّ من إجماع دولي إلى استفتاء أممي عالمي وَحّد الرُّؤى وحسم الموقف نحو حلّ واحد.
فالجزائر لا تفهم بأن إيجاد الحلّ المناسب يقوم على شجاعة الموقف والقدرة على تبنّي رؤية مختلفة بطريقة مغايرة. وقد أثبت نظام العسكر الجزائري أن التجديد والإبداع ليس موهبة ولا قيمة جزائرية، ولن يكون كذلك ما دام العمى يُغلق عقيدة النظام المكلّسة في البذلة العسكرية وليس في المؤسّسات المدنية والرئاسة.
وفي براثين هذه العتمة السياسية، تغيب إمكانات التكيّف السياسي الاستراتيجي لدى النظام الجزائري. ذلك، أن السياسة والدبلوماسية الجزائرية بأفعالها وسرديّتها واستجاباتها السلبية المرفوضة دوليا، تَغيب فيها المرونة ومقوّمات الانفتاح على الحلول المفيدة والواقعية، لصالح الجمود والانغلاق والعنتريات والابتزاز، رغم ما تؤدّي إليه من أزمات وخيبات وانكسارات سياسية دولية متكرّرة ومستمرّة نتيجة وهم “القوّة الضاربة”.
وهذا ما أصاب الجزائر بالضعف أمام العالم وطَبَعها بسوء الصّورة والسّمعة، وغياب الثّقة والمصداقيّة مع الحرص الدائم على إثارة الأحداث وصناعة المشاكل والخداع وتوظيفها بشكل سيّئ ضدّ جيرانها ومحيطها، تعمل على الابتزاز السياسيّ للمواقف كما فعلت مع تونسَ وموريتانيا وإسبانيا وفرنسا والبرتغال، بعدما انحسرت مرحلة الارتشاء المالي للدّول الإفريقية وجمعيات المجتمع الأوروبي، واضمحلّت نتائج التبعيّة الإيديولوجية لدول أمريكا اللاتينية.
ولهذا، فالإجماع الدولي على الحكم الذاتي يُعطي، اليوم، لنظام الجزائر فرصة تاريخية جديدة لاختيار مدى إمكانية ومراجعة عقيدته ورؤيته ومواقفه إن تحكّم بها مرّة أخرى من أجل التكيّف الاستراتيجي وتجديد دماء النظام الجزائري على أسس جديدة، متناغمة مع مقوّمات التحوّل الدولي، بهدف التمَوْقُع الجديد داخل البناء الجديد، عِوَضَ البقاء خارجه أو اختيار الموت.
د. ادريس قصوري، أستاذ التعليم العالي ومحلّل سياسي