نورالدين الدغير
في أسس العمل الديبلوماسي ليس هناك مكان للأحاسيس والمشاعر، و لايمكن القياس على الانتصارات الصغيرة و الهزائم الأصغرو اعتبارها إنجازا في ميدان التنافس السياسي، فمنطق العمل الديبلوماسي هو تحرك في مساحة الاستراتيجية بهدف تحقيق عدد اكبر من النقاط، ومنطق الانتصارات أو الهزائم يحضر بشكل اساسي فقط في ساحة الحروب، وتتوزع الرقعة ما بين منتصر يفرض شروطه و منهزم يخضع من دون قيد أو شرط، وهذا الأمر غائبا في مجال الديبلوماسية خلال مرحلة السلم.
مع التطور الحاصل في العالم بدأت الدول تحدث تغيرا في مناهجها بناء على عناصر القوة التي تمتلكها، المفكر السياسي الأمريكي جوزيف ناي عالج مفهوم القوة و استعمالها في عصرنا الحاضرو قد تكون تلك التركيبة التي أسسها تعيد الوهج السياسي للدول بعيدا عن تحريك القوات العسكرية أو ما يصطلح عليه بالقوة الصلبة، فالصراعات لايمكن حسمها بالقوة العسكرية، و بحسب القولة المرعوفة ” فالله ليس دائما إلى جانب الجيوش الكبرى”، فبناء التحالفات و تحقيق انتصارات في الوقت الحالي يحتاج إلى استراتيجية تعتمد بالأساس على القوة الناعمة أو القوة الذكية لكسب الحلفاء و الانصار، و هذا ا لايختص بمسألة العلاقات الدولية فقط بل حتى على مستوى العلاقات الداخلية للدول.
هذه المقدمة يمكن االانطلاق منها كأرضية لبناء رؤية بشان ملفات ترتبط بالديبلوماسية المغربية و قد يكون المنطلق إلى ذلك كثرة الحديث مؤخرا عن ما حدث في القمة الأفريقية و الانتخابات المرتبطة بنائب رئيس المفوضية الافريقية أو تلك المرتبطة بالتقاضي بين فريق نهضة بركان و اتحاى العاصمة الجزائري، كما أن الديبلوماسية المغربية تتحرك في ملفات مختلفة و قد تخضع في مواقع متعددة إلى مسألة تقييم الأداء على قاعدة الربح و الخسارة، و الحديث في هذه المسألة يحتاج إلى بناء رؤية من زاوية جديدة تنصف العمل الديبلوماسي و تبتعد عن حالة الهستريا التي تحكم في كثير من الأوقات وسائل الإعلام او مواقع التواصل الإجتماعي، فحينما يغيب منطق السياسة و العقل وهو الاساس الذي تنطلق منه المؤسسات الرسيمة في عملها، يحضر الجهل و التفاهة التي تشكل الطابع الغالب لحراك العوام.
تنبه الاستراتيجي و الديبلوماسي الأمريكي الراحل هنري كسينجر إلى الحالة الصينية و استراتيجية عملها السياسي وكيف تتحرك على رقعة الديبلوماسية العالمية، و قد يكون المكون الشعبي و الثقافي للدول لاعب أساسي في هذا المجال، فالصين اختارت في سياستها أن تتحرك على قواعد لعبة “غو” المعروفة كذلك بلعبة” وي تشي”،قواعد اللعبة هذه لاتعتمد على السيطرة المطلقة أو الانتصار المطلق، و إنما تعتمد على الانتشار في رقعة اللعب و المحاصرة و في النهاية تحقيق انتصار نسبي، و الأهم من ذلك عند النظر إلى الرقعة لايمكنك تشخيص الفائز إلا بعد حساب الخانات الفارغة، في المنطق النفسي قد يكون هذا النوع من الانتصار هو المطلوب في حراك الدول دون إثارة الطرف المنافس على عكس اتباع سياسة اللعب على طريقة الشطرنج و تحقيق الفوز الكاسح و هي السياسة التي تتبعها الدول الغربية على العموم،فأيهما يفضل المغرب، أن يلعب ديبلوماسية “غو” أو ديبلوماسية “الشطرنج”، قبل الإجابة على هذا يجب تحديد معايير لمباني السياسة دون الخوض في تحديد طبيعة المدرسة السياسية التي تحدد الاطار العملي لأي فعل سياسي،
فيمكن القول أن الوضع تجاوز مفاهيم المدارس المثالية و الواقعية السلوكية، وهو في هذه المرحلة مؤطر بجوانب مادية و عملية أساسها القيم و الافكار و القوة لا على أسس ايديلوجية و حتى اخلاقية.
ضمن سياق تنافس المصالح السياسية فقد تكون الاستراتيجية المغربية أقرب في تحركها إلى لعبة “غو” أكثر من اللعب على طريقة الشطرنج،فبعد سنوات من مواجهة عبث الطرف المنافس و انعدام رؤية واضحة تحكم مساره و رؤيته السياسية، فليس أمام الديبلوماسية المغربية إلا تجنب أي مواجهة مباشرة و بناء استراتيجية تنبني على تحقيق انتصارات و تفوق نسبي، و هذا يتطلب بالتأكيد تفادي عنصر المفاجأة للطرف المقابل و عدم الوقوع في دائرة المحاصرة ، و أي إخفاق في هذا السياق قد يرتبط بمجموعة من النقاط العملانية
1- الاستهانة بأي إخفاق سياسي حتى ولو بسيط و عدم وضعه في سياقه الصحيح، و محاولة تحويله إلى انتصار أو إنجاز
2-اختيارات و خطوات سياسية و بشرية غير مضمونة لاتتناسب مع طبيعة الحدث و لامكانه
3-جهاز إعلامي لايواكب حجم التحدي السياسي و يعيش حالة من التقليدانية و غير قادر على إيصال المعلومة وتوضيحها و الدفاع عنها
4-فضاء موازي ( منصات ومواقع التواصل الاجتماعي) غير قادر على الإبداع يعيش على أخبار المقاهي و الجرائد الصفراء و يجتهد في خلق صراعات هامشية تسبب في ضياع الإنجازات الكبرى و المهمة، و في أوقات يسهم تسرب عناصر انتهازية يغيب عنها الحس الوطني يحركها الدافع المادي.
و على رقعة “غو” السياسية هناك خطوات أساسية قد تكون عناصر مهمة لتحقيق الانتصار و تفادي الخسارة دون إثارة الطرف المقابل
1-بناء استراتيجية للتحرك على خطوط الملفات المهمة لأجل الاستحواد عليها دون إغفال حساب التحالفات التي تشكل ضامنا للظفر بأي استحقاق و لابد في هذا المجال من استحضار مقولة الحيطة و الحذر و بحسب المفكر الصيني “سان تزو” صاحب كتاب فنون الحرب الذي قال” الحاكم المتفتق الذكاء يجب ان يتحلى بالحيطة والجنرال القوي يجب ان يتحلي بالحذر”
2-تفادي المخاطرة و التنافس في الملفات الصغيرة التي ليست لها أهمية سياسية كبرى، و تركها كمتنفس للمنافس كي يحس في لحظة ما بنشوة الانتصار حتى ولو مرحلية
3-تجنب تكرار أي فعل ديبلوماسي و تفادي التحرك على نفس الوتيرة و الأسلوب للطرف المنافس لأنه سيؤدي في النهاية إلى تمكن الطرف المنافس من محاصرتك
4-تجنب الغضب و الكراهية أثناء العمل السياسي و الديبلوماسي و بما أن العمل في هذا المجال لايختلف كثيرا عن محال العمل العسكري فنستحضر هنا قولة”سن تزو” كذلك ” القادة العسكريون لايجب عليهم التوجه لميدان الحرب تحت تاثير الغضب والكراهية ”
قد يكون الحديث عن القوة الناعمة و الذكية في العمل الديبلوماسي و السياسي أمر يفرض نفسه في هذه المرحلة التي لم تعد الحروب هي مصدر الانتصارات فقط بل قد تؤدي في كثير من الأوقات إلى دمار شامل لكلا طرفي المواجهة، و يبقى النصر دون حرب هو أفضل خيار، و يرتكز هذا الفعل على مجموعة من المحددات
1-الثقافية من خلال الاستفادة من الجوانب الثقافية التي تؤسس لعملية جذب و التحرك على أرضية المشترك الثقافي و التاريخي خاصة مع الاطراف المنافسة والمجاورة من خلال عمل أجهزة مختصة في ذلك و الابتعاد عن الشعبوية، دون الانجرار إلى حالة الاستفزاز و خلق فضاء لصراع هامشي يسبب حالة من النفور للأطراف المستهدفة بدل سياسة الجذب.
2-القيم السياسية: التحرك بناء على عدد من القيم التي تشكل الأطار المرجعي للمجتمع و تشمل مفاهيم الديمقراطية، و الحرية، و المساواة و التي تشكل مرجعا أساسيا لبناء الثقة في أي فعل أو تحرك ديبلوماسي و ينظر إليه على أنه ذا مصداقية
3-السياسة الخارجية: باتباع سياسة الأيادي المفتوحة و بناء رؤية على أسس المصالح المشتركة سواء منها البينية أو الإقليمية و حتى على المستوى الدولي.
التركيز على الخطاب السياسي الهادئ يشكل ركيزة أساسية في خلق تحالفات قوية و حتى في هدم تحالفات معادية و يعتبر دعامة أساسية في سياق العمل ضمن أطر وقوانين المجتمع الدولي، و هذا لايعني بالضرورة إخراج القوة الصلبة من الحسابات و بحسب المثل القائل” إذا كان حبيبك عسل ما تكلوش كله” وهو ما يعطي ضرورة إعداد السيناريوهات البديلة و بناء قوة صلبة متكاملة عمادها الجانب البشري و الإقتصادي و العسكري، فهذه العناصر تشكل أسس بناء استراتيجية دفاعية و عسكرية، و إذا ما تم تحقيق الاستفادة الكاملة من هذه العناصر فستظهر بشكل كبير طبيعة القوة الصلبة للبلاد و جاهزيتها و الرافعة بكل تأكيد للقوة الناعمة و قد تسهم بشكل كبير في تغيير سلوك الأطراف المنافسة و المعنية.