إعداد: عبد الرحيم زياد
تقدم جريدة “24 ساعة” الإلكترونية خلال شهر رمضان المبارك، سلسلة حلقات تستعرض جوانب مضيئة من تاريخ المغرب الاجتماعي في القرن التاسع عشر، وذلك من خلال كتاب “المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر – اينولتان 1850-1912” للمؤرخ والأديب المغربي أحمد التوفيق.
الكتاب عبارة عن رحلة عبر الزمن إلى قلب المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر، من خلال دراسة تاريخية اجتماعية عميقة، تسلط الضوء على فترة حاسمة من تاريخ المغرب، وتحديدًا منطقة “اينولتان”، خلال النصف الثاني من 19 وبداية القرن 20. وهي فترة شهدت تحولات جذرية نتيجة للضغوط الاستعمارية والتغيرات الداخلية التي عصفت بالمجتمع المغربي.
كما يتناول الكتاب فترة حكم السلطان الحسن الأول، وهي فترة زاخرة بالأحداث والتحديات التي ساهمت في تشكيل ملامح المغرب الحديث. ويقدم وصفًا دقيقًا للحياة اليومية للناس في “اينولتان” ، مركزًا على العادات والتقاليد، والبنية الاجتماعية، والاقتصاد المحلي. كما يسلط الضوء على تأثير العوامل الخارجية، مثل التجارة الأوروبية والضغوط السياسية، على المجتمع المغربي
الحلقة السابعة: هسكورة في ظل دولة الموحدين: من التوسع إلى الاستقرار
المرحلة الثانية : قرن الموحدين : توقف التوسع
وصلتنا عن هسكورة في عهد الموحدين، أخبار لم ترد عنهم لا من قبل ذلك ولا من بعده ، إذا نظرنا إلى كميتها، وذلك نظرا للمشاركة الواسعة التي كانت لهم في أحداث تلك الفترة، خاصة منذ بداية انحطاط دولة بني عبد المومن.
إذا تأملنا الأخبار التي وصلتنا عن قيام الدعوة الموحدية، نلاحظ أن القبائل التي سارعت إلى تعزيز هذه الدعوة، كانت إما من الأطلس الصغير (هرغة)، وإما من أودية الأطلس الكبير غربي مراكش تينمل وكنفيسة وهنتاتة خاصة). وهذه القبائل الأخيرة هي التي كان المرابطون يراقبون منافذها على السهل، بسلسلة من الحصون ذكرها البيذق . أي أن هذه القبائل كانت محصورة عن السهل. ولا يستبعد أن يكون تسویر مراکش على عهد علي بن يوسف احتياطا ضد هجوماتها المتوقعة. وإذا تأملنا النجاحات الأولى التي حصل عليها عبد المومن،
حتى قبل وفاة المهدي، نلاحظ أنها كانت عند قبائل السفح الجنوبي خارج مجال قبائل السابقة». فهسكورة كانوا يمتدون من درعة إلى حدود أم الربيع . وحسب المماثلة الفرضية، التي أجريناها بين زحفهم الذي بدأ قبل الإسلام بقرون، وبين زحف آيت عطا في العصور الحديثة، فإن بعض قبائلهم عند مجيء الموحدين، كانت قد وصلت إلى غايتها واستقرت بالمناطق الداخلية (آيت مساض ونتيفة وفي الحوز الجنوبي حيث السراغنة اليوم)، وفي جبال السفح الشمالي إينولتان) وفطواكة وغجدامة وكلاوة الشمالية)، بينما ظل بطن سكورة وتوندوت وغيرهما من بطون القبلة، على السفح الجنوبي من واد دادس إلى تيزي ن فدغات موضن امغران اليوم). وكانت تنتظر ولا شك أن تتقدم بدورها، ولكن استقرار القبائل الأمامية، وظهور ميولها إلى الموازنة بين الرعي والزراعة، كان يحول دون ذلك التقدم، وربما عاق حتى عقود التعزيب بين رعاة السفحين، وذلك ما كان يخلق تناقضات في داخل الاتحادية القبلية الأولى، ونخلص من هذا إلى أن قبائل السفح الجنوبي للأطلس عند هسكورة كانت في وضعية تجعلها أكثر تقبلا للدعوات التوسعية الجديدة، بدافع فك الحصار عليها. ونقترح أن ينظر من هذه الزاوية إلى مضمون تقسيم البيدق لهسكورة إلى بطون ظل وبطون قبلة.
وقد سبق أن أشار كتاب “الأنساب” ، في رواية فتح عقبة، إلى أن هذا الفاتح، عندما مر بهسكورة السفح الجنوبي استجابوا له ولم يقاتلوه ، ولكنه في طريق العودة مر بهسكورة عند قدم سفح الأطلس الشمالي فقاتلوه . وقد تشابه الموقف مع موقفهم من الموحدين، قال البيذق : لما خرج المعصوم لغزاة هسكورة سرنا لموضع منها يقال له “أزليم” فتقاتلنا معهم، واشتد الوطيس حتى شج المعصوم … فأتينا به حتى وصلنا المنزل، وجعلنا للقتال حتى أخذ الله الذين ظلموا … فرجعنا، فلما برز المعصوم خطبنا ووعظنا وقال : الحق معنا وفرعه من توندوت، ثم أزعج الله ابن توندوت فأمر بتجديد الجيش وقال عولوا على الغزو إن شاء الله .
وابن توندوت زعيم من زعماء هسكورة القبلة، واستجابته للمهدي، والمقاتلة بجانبه، تقوي الفكرة التي شرحناها عما لقيته دعوة المهدي من هوى في نفوس القبائل المحصورة، وإشارة ابن عبد الحليم أصرح في ذلك حيث قال : قال أبو علي حسن بن علي بن القطان في ما سلف من أخبار الزمان : إن المصامدة على فرقتين أهل جبل درن متبعون للإمام وأهل الوطاء مخالفون له» . على أن ظروف العيش في الجبال نفسها ليست سواء ما بين السفح الجنوبي والسفح الشمالي. فلا شك أن سكان الجنوب كانوا ينتجعون في المناطق السهلية والواقعة جنوبي الأطلس، بينما كان سكان الشمال أكثر اضطرارا إلى حياة الزراعة والرعي الجبليين بما فيهما من خصاص دائم. وقد تحدث ابن خلدون عن هسكورة في عهد الموحدين جملة، فوصفهم بالمنعة، واحتلال مرتبة الاعتزاز، ولكنه ذكر غلبة البداوة على حياتهم . ويظهر أن تلك البداوة كانت ما تزال غالبة حتى على مستوطني سهل الحوز منهم : فقد أورد البيذق عند ذكر قتال عبد المومن لأهل التخليط أن أصحاب الخليفة فاجأوا بعض الهساكرة في قياطينهم أي في خيامهم .
ولا شك أن توقف هسكورة عن التوسع ، قد مكنهم من قطع أشواط في طريق الاستقرار. وقد قام الموحدون بخطوات في هذا الاتجاه، لأن استقرار الهساكرة الذين كانوا يكونون قوة هائلة، كان آمن للدولة وعاصمتها. يذكر ابن عذاري أن أبا يعقوب يوسف خرج سنة 572هـ من مراكش برسم الغزو الصنهاجة القبلة فلما وصل رباط هسكورة أمر الناس ببناء بيوت ودور للسكنى. وإذا كان الممر الذي سلكته جيوش الموحدين هو ممر فدغات، كان الحصن المذكور هو دمنات. فقد سبق أن ذكرها
البيدق عند الحديث عن مرور جيش عبد المومن بالدير وتاشفين يطارده وقال : ونزلنا بموضع يدعى دمنات دون أن يبين ما إذا كانت قرية مبنية أم لا. ويبدو أن مساعي الموحدين لاستقرار هسكورة كانت لها علاقة بمشاريعهم الزراعية في البحيرة ومدينة آسفي، وربما حتى في منطقة تملالت الحالية، حيث إن يعقوب المنصور جر ساقية للري إلى هذه المنطقة من تاساوت، رفعت منها على مقربة من دمنات . وإذا كان السفح الجنوبي الجبال هسكورة مسكونا من طرف أنصاف الرحل، فمنطقة اینولتان، ومنخفض دمنات بصفة خاصة، كان يوفر امكانيات بستنة كثيفة مسقية ومزارع غنية وحتى عندما وقع عبث رحل الاعراب في سهل قدم الجبل ابتداء من القرن السابع ، فقد كان دخول هسكورة في تحالف مع الخلط واقيا لهم ولبساتينهم. فلتلك المزارع التي أدركها هسكورة، في منطقة دمنات بالذات، رق الواثق الموحدي عندما حاصر الناكث عليه ابن جلد اسن الهسكوري،
واقتضى نظره أن يتنحى عن بلاد هسكورة لئلا تلحقها معرة العرب بانتساف زروعها (42)، وكانوا في جيشه لقتال شیخ هسكورة والراجح أن منطقة اينولتان عرفت استقرارا قديما، وزراعة كثيفة، خاصة في منخفض دمنات، وأن مجموع هسكورة مالوا في هذه المرحلة إلى نوع من الجمع المتعادل بين الزراعة وتربية الماشية. لكن الزراعة التي مارسوها في مناطق جبلية ضعيفة الامكانيات لم تكن تمكن من التغلب على الخصاص في الغذاء، وهذا الخصاص في انتاج الطعام هو الذي دارت إليه معظم أخبار صلحاء هسكورة القاطنين بجل دمنات حينذاك من تلاميذ أبي يعزى وأبي محمد صالح وغيرهم.