منذ ما يزيد عن العقدين من الزمن، تحولت التجربة المغربية في مجال التصدي للخطر الإرهابي إلى نموذج يحتذى به عبر العالم، تتقاطر عليه أقوى أجهزة الأمن عبر العالم لطلب خبرته وتعاونه.
استراتيجية المملكة في هذا المجال تقوم على محاور متعددة، على رأسها قوة أجهزته الاستخباراتية التي ساهمت في التصدي لعدد من المخططات ليس فقط داخل المملكة، بل على صعيد دول صديقة وشقيقة بفضل تعاون أمني منقطع النظير.
الحلقة الثامنة:
رغم أن المغرب عرف اعتداءات محدودة ومتفرقة التي وقفت وراءها خلايا ارهابية في طور التشكل، الا أن تفجيرات الدار البيضاء أنهت ما كان يسمى “الاستثناء المغربي”، وتبين أن بلدنا ليس بمنأى عن الارهاب المحلي والدولي، خاصة بعد تفكيك خلية سميت ب”الخلية النائمة لتنظيم القاعدة” وقبلها خلايا عديدة كانت تعد لمخططات دموية مماثلة، مما دفع السلطات الى اتخاد سلسلة من الاجراءات وعلى عدد من من المستويات لتفكيكها.
وكانت أحداث 16 ماي 2003 محطة فاصلة في محاربة الارهاب, خاصة أنها ، كما أوردنا سابقا، كانت أكثر دموية وخلفت قتلى ومعطوبين, وتسببت في مقتل 45 شخصا، من بينهم 12 انتحاريًا، وأصيب أكثر من 100 آخرين. وكان الاعتداء الذي استهدف مطعم إسبانيا “Casa de España”: أشد عنفًا، حيث قتل 20 شخصًا من زبائنه. كما أصيب بشظايا المتفجرات عدد من العاملين به تسببت في عاهات مستديمة لكثير منهم. فيما قتل في الاعتداء الذي استهدف فندق فرح بواب وحامل أمتعة، وقتل وقتل ثلاثة أشخاص في المقبرة اليهودية, فيما لم يصب أي شخص المركز الاجتماعي اليهودي لأنه كان مغلقًا وقت الهجوم, بينما قتل عنصري أمن مغربي في الهجوم الذي استهدف مطعم إيطاليا بالقرب من القنصلية البلجيكية.
زار جلالة الملك محمد السادس حينها مواقع التفجيرات، ووقف بنفسه على فضاعة الخسائر البشرية والمادية, كما أدان زعماء العالم التفجيرات خاصة أنها تحمل بصمات تنظيم القاعدة وأحد فروعها الجماعة المغربية المقاتلة التي تأسست في أفغانستان من ارهابيين مغاربة، قاتلوا في صفوف التنظيم الارهابي الدولي, ويطلق عليهم المغاربة الأفغان العائدين من الحرب الأفغانية أو الهاربين، بعد ملاحقة تنظيم القاعدة وتفكيكه، وقد استفادوا من تكوين في استعمال الأسلحة وصنع المتفجرات بمعسكرات أفغانستان، وهم الذين وضعوا تكوينهم العسكري في معسكرات الأفغان رهن إشارة الخلايا التي انضموا إليها بعد العودة والمنضوية تحت مسمى “السلفية الجهادية”، والتي كانت نتيجتها تدبير تفجيرات أزهقت الأرواح، وباستعمال طرق جد متطورة منها صناعة الصواعق.
مباشرة بعد تفكيك خيوط التفجيرات الدموية للدار البيضاء واعتقال المتورطين والمحرضين، تمت محاكمة أعداد منهم بمحكمة الاستئناف بالدار البيضاء، وأدين في مرحلة أولية ثلاثون من المنتمين للسلفية الجهادية بأحكام تراوحت بين الإعدام وسنة سجنا، بعد أن تمت متابعتهم بجناية تكوين عصابة إجرامية والقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد مع تشويه جثث وإخفائها ومحاولة القتل مع سبق الإصرار والترصد والاختطاف والاحتجاز والضرب والجرح وإضرام النارعمدا وحيازة اسلحة نارية وذخيرة واستعمالها، وحيازة أسلحة بيضاء وقنينات الغاز المسيل للدموع واستعمالها وانتحال هوية وألقاب وهوية شرطي والسرقة الموصوفة وإخفاء أشياء متحصل عليها من السرقة والاتجار فيها وتزوير صفائح السيارات وأرقام إطاراتها«، بعد أن نفدوا عمليات اعتداء ضد أشخاص في إطار ما يسمونه “تغيير المنكر” أو التعزير في أدبياتهم، حيث يقومون بانتزاع السيارات التي يستعملها الأشخاص المعتدى عليهم فيما أسماه “الخبائث”، ثم يتخلصون منها في مكان بعيد، ويسلبونهم أموالهم التي تصبح فيئا مستباحا وحلال عليهم.
وبعد الأحداث الدموية التي استهدفت الدار البيضاء، عمد المغرب إلى وضع استراتيجيات وخطط استباقية تهدف إلى إصلاح الحقل الديني، ومواجهة الحركات المتطرفة وتجفيف منابعها، عبر عدد من الإجراءات والقرارات أملا في تجنيب البلاد حوادث مماثلة.
الاستراتيجية الشاملة لمكافحة الإرهاب التي اعتمدها المغرب خاصة إجراءات اليقظة والأمن والحرب الإستباقية للمكتب المركزي للأبحاث القضائية المعروف اختصارا ب “البسيج” مع تعزيز التعاون الدولي وتبادل المعلومات الاستخباراتية.
كما تم وضع سياسات مجددة لوقف زحف الخطاب الأصولي المتطرف واستئصال أعشاشه، من بينها تبني المبادرة الوطنية للتنمية البشرية لمحاربة الفقر والهشاشة والدروس الحسنية لنشر قيم اسلام معتدل، وتكوين المرشدات الدينيات والمجلس الأعلى للعلماء واحداث خلية الإستعلامات المالية وتدابير أخرى هدف أولها إصلاح وتأهيل الحقل الديني لحماية الأمن الروحي للمغاربة. وبالموازاة مع ذلك تم اطلاق مشاريع اجتماعية لاحتواء أحزمة الفقر بالعاصمة الاقتصادية، وإعادة النظر في المقررات الدراسية وفي التعليم الديني بالمساجد.
جل الإجراءات الأمنية التي اتخدت مباشرة بعد الأحداث الإرهابية 16 ماي سنة 2003، أتث أكلها وكانت النتيجة تفكيك مئات الخلايا الارهابية ، والتي تتناسل كالأورام السرطانية في المجتمع المغربي، بل إنها اتخدت أبعادا دولية بربطها صلات مباشرة مع قادة تنظيم القاعدة العالميين وأيضا قيادة التنظيم بالجزائر بعد أن أصبح يحمل تسمية تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي، كما أن السياسة الدينية الجديدة سحبت البساط من تحت خطاب متشدد بدأ يتغلغل وسط كل الفئات الشعبية.
تفكيك العشرات من الخلايا، أبان عن ارتباط الجريمة الإرهابية والجريمة المنظمة وتداخل اعمال الارهاب مع عصابات الجريمة المنظمة. ذلك ما تؤكده العديد من الأبحاث والتقارير الصادرة سواء عن أجهزة الأمن الوطنية أو الدولية ولاسيما من الشرطة الجنائية الدولية الأنتربول التي أكدت عن العلاقة القائمة بين الارهاب والجريمة المنظمة من سرقة سيارات وتزوير الوثائق والسطو على الأبناك وتهجير البشر وتهريب السلاح والمخدرات.
المغرب اسعفته أحداث 16 ماي رغم ماخلفته من ضحايا، في فهم واستيعاب المزيد من المخاطر التي تتهدد أمنه الداخلي بعد أن تأكد أن مخاطر الارهاب ذي العباءة السلفية نجح في حياكة روابط قوية مع مافيات الجريمة المنظمة. وأصبحت خطرا حقيقا يواصل تهديد بلدنا.
مراجع :
· محمد قنفودي : “من أين ينحدر الجهاديون المغاربة, ومن يؤيدهم ” https://mipa.institute/5628
· محمد مصباح : الجهاديون المغاربة : جدل المحلي والعالمي , مركز الجزيرة للدراسات 2021