للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة الخامسة:
تبنت مجمل الصحف الاسبانية الأطروحات الكولونيالية التي كانت تسهب في شرحها، وتساهم في تطوير مفاهيمها، لكن مع ذلك كانت المقاومة البطولية الريفية تفرض عليها نوعا من الواقعية وتدفعها إلى مراجعة مواقفها، تحسبا منها لهزيمة عسكرية اسبانية وشيكة على يد قبائل الشمال المغربي المقاتلة. وعموما تنقسم اتجاهات الصحافة الاسبانية بالنسبة لأحداث الريف إلى اتجاهين رئيسيين.
الاتجاه الأول يعكس قلق الرأي العام الشديد عما أسفرت عنه عمليات « التهدئة» في منطقة الريف من زهق أرواح آلاف الجنود الاسبانيين وإثقال عبء ميزانية الدولة.
وكانت الصحافة ذات الميول الاشتراكية هي التي تجسد هذا الاتجاه، لكنها في نفس الوقت كانت تعبر عنه بنوع من الغموض والانتهازية. وهو الموقف الذي بدأ واضحا من خلال تعليقات وتحليلات صحيفة اسبانيا نويبا. وأما الاتجاه الثاني فقد كان يندرج في إطار الدعاية الاستعمارية التقليدية المدعومة من طرف أوساط رجال الأعمال والضباط السامين في الجيش الإسباني. وكانت تغذيه فكرة «عظمة» اسبانيا التي يجب أن تتجلى ميدانيا في مشروعها التوسعي الكولونيالي. ومن أهم صحف هذا الاتجاه كورسبوندانسيا دى اسبانيا التي تشبه إلى حد بعيد من حيث ترويجها للدعاية الاستعمارية الصحيفة الفرنسية اليمينية لاكسيون فرانسيز.
بظهور التنظيم السياسي العسكري الريفي سنة 1921 تحت قيادة عبد الكريم، تعززت أطروحات الصحف الاسبانية التي كانت تنادي بالانسحاب من المغرب. وهي ترى أن الصعوبات الجمة التي كانت الجيوش الاسبانية تواجهها في الريف دليل قوي آخر، يدعم وجهات نظرها بهذا الصدد. بينما عدلت قليلا من مواقفها المنابر الإعلامية التي كانت تنطق باسم التيار الكولونيالي وتتبنى سياسته التوسعية بدون قيد ولا شرط، لكن هذا التعديل كان في لهجة المقالات أكثر منه في الاعتقاد الراسخ في ضرورة تدعيم المد الاستعماري.
وهكذا كتبت صحيفة أ. بي. سي. يوم 29 يوليو 1921، مقالا مطولا تحت عنوان “قانون ميناء طنجة” معلقة فيه على الصعوبات التي يلاقيها الاسبان في إحكام سيطرتهم على المغاربة في المنطقة الشمالية، ومن ثم بدأت تشكك في مستقبل المشروع الاستعماري الاسباني بالمغرب، وتثير انتباه الدول الأوربية المعنية إلى أن “المسألة المغربية” غدت من جديد تهدد بالانفجار: « إن الإمبراطورية المغربية دولة وهمية، صنعتها الدبلوماسية الأوروبية لتفادي المجابهات بين الأوربيين، وهذا هو السبب في تقسيمها إلى ثلاث مناطق بناء على اتفاقية 1904 المبرمة بين انجلترا وفرنسا واسبانيا والاتفاقيات التي تلتها: المنطقتان الفرنسية والإسبانية تخضعان للنظام وتعرفان تطورا إيجابيا. وأما منطقة طنجة، فإنها تتخبط في الركود الاقتصادي، إنه وضع غير مريح وحافل بالمخاطر، إن طنجة بركان كامن، وما دامت مشكلة طنجة لم تسوى، فإن ما اتفق بشأنه سنة 1904 لم ينجز بأتمه. وعليه فإن المغرب ما زال يشكل مسألة بكل تشعباتها، ولهذا فإن طنجة ستظل بؤرة توتر عالمي».
أوصت هذه الصحيفة بعدم التلويح بشبح « المأزق المغربي» أكثر من اللازم، ووجهت دعوة غير مباشرة لفرنسا، قصد إيجاد صيغة مقبولة لقانون طنجة المرتقب، و ذلك في إطار حبي وشريطة الاعتراف بالحقوق الإسبانية التي نعتتها بغير قابلة للتقادم.
بعد أسبوعين على نشر هذا المقال، دعت صحيفة الايمبارسيال إلى نهج سياسة توافق وتقارب مع فرنسا في المغرب وحثت قراءها على أن « الحديث عن الحماية مع أناس يعيشون في بلاد السيبة لا يجدي نفعا؛ ليس هناك سوى سياسة واحدة لا غير، إنها سياسة القوة». وترى هذه الصحيفة في التجربة الكولونيالية الفرنسية ما فيه الكفاية من الوضوح لجعل المعمرين الإسبان يستعيدون الثقة في نفوسهم ويكتفون، عند الاقتضاء، بتواجدهم في الجيوب المحتلة، وفي مليلية على الخصوص : “إذا ما انهارت جبهة الأطلس الفرنسي، فإن نظام الحماية من الرباط إلى وجدة سينهار هو الآخر، سياسة القوة وحدها هي الممكنة في مليلية؛ تحت غطائها سنفرض سلطة الخليفة. ولا يجب محاولة التعلق بالسلطة الدينية لمولاي المهدي، لأن النفوذ الديني الوحيد في الريف هو النفوذ الذي يمارسه شريف وزان، وهذا الأخير محمي فرنسي. إذن، لا يوجد بالنسبة إلينا أي مشكل سياسي نبحث عن حل له، المنطق السليم ينصحنا بتوفير العتاد الحربي في مليلية”.
كان من السهل ملاحظة ميل الصحيفة إلى خيار التنازل الإسباني عن المنطقة الشمالية المغربية لصالح فرنسا، والاكتفاء بالجيوب المغربية المحتلة قبل إعلان الحماية. لكن ذلك كان يبدو بمثابة خيار الملاذ الأخير. والواقع أن الرأي العام في إسبانيا لم يكن يعلم بعد أن الجيش الكولونيالي الإسباني كان يواجه في المنطقة الشمالية المغربية مقاومة محكمة التنظيم، لذلك نشرت نفس الصحيفة بتاريخ 15 غشت 1921 مقالا استهلته بهذا السؤال:”هل من الأفضل الاعتراف بالحقيقة أو إخفاؤها؟ إننا نعتقد أن المنطق يفرض علينا البديل الأول، لأن قواتنا لا تجهل ماذا يعني انهيار الجبهة.
ثم إنه من المفيد أن تعلم البلاد الحقيقة، حتى لا تباغت بحجم المجهودات المطلوبة منها. إن إنكارنا في إعلامنا لأي قيمة تميز فرق قتالية منضبطة ومزودة بكل شيء، لن يؤدي إلى انتصارنا عليها. هذا لن يحدث إلا بفضل تفوق قواتنا، وبفضل قيادة عسكرية في المستوى”.
إن قول”الحقيقة” التي تشدد عليه هذه الجريدة كان يعني قبل كل شيء تأجيج نار الحرب الكولونيالية في المغرب، وليس القيام بتغطية إخبارية شاملة تشرح للرأي العام الإسباني الأسباب الحقيقية للإخفاقات العسكرية المتتالية في الريف؛ وهكذا بررت الصحيفة موقفها:”يجب قول الحقيقة متى كانت الظروف تسمح بذلك. إن الجمهور سوف لن ينبهر لكثرة المدافع الريفية، ولكنه يطالبنا بالقيام بحرب علمية مع تفوق ساحق في الأسلحة”.
ونشرت جريدة أ. بي. سي. يوم 29 شتنبر 1921 مقالا من توقيع انطونيو بوكيس تحت عنوان:”لا أحد يعلم ماذا يجري في المغرب”. ويرى صاحب المقال إن هناك اتجاهين يميزان التيار الكولونيالي الإسباني: الاتجاه المتشدد الذي كان يشكله “أنصار الحرب بدون هوادة مع إبادة كل الأهالي الريفية”، واتجاه آخر يحبذ إتباع الإستراتيجية الليوطية (نسبة إلى الجنرال ليوطي) المبنية على الحرب طبعا، ولكنها مع ذلك تنتهج سياسة “الإغواء والتوغل المتستر”.
وخلص صاحب المقال، إلى أن حصيلة السياسة الاستعمارية الإسبانية في المغرب كانت سلبية، وهو بذلك ينضم إلى الاتجاه الثاني، منوها بسياسة الحماية الفرنسية: «لم نكن قطعا أوفياء لا لسياسة الإغواء ولا لنظام حرب الابادة… ألا يحسن بنا الإقرار أننا لم ننتهج سياسة واضحة في المغرب؟ (…) إن الجانب التقني قد تحسن منذ 1909؛ إننا نعرف تماما الميدان، والموارد، وقوة المقاومة النسبية لهذه القبيلة أو تلك… ولكن لم نقطع ولو خطوة واحدة في معرفة نفسية الإنسان الريفي، ولا في العصبية العرقية لأعدائنا، ولهذا كان الاحترابيون الكسلاء يخطئون دائما في حساباتهم”.
كانت تحليلات هذا الاتجاه الأخير تدفع دائما إلى التقارب والاعتماد المتبادل بين اسبانيا وفرنسا من أجل سياسة كولونيالية تخدم مصالح البلدين في المغرب، وكانت سياسة ليوطي الاستعمارية تبدو ناجحة وتحظى بإعجاب الإسبانيين. وفي نهاية 1924 صرح ملك اسبانيا لمراسل ساندي تايمز بأنه سيبدأ قريبا في المغرب ممارسة سياسة جديدة مبنية على “التوغل المتستر”. و أكد لمراسل الجريدة ما يلي:”لقد تعلمنا الكثير من أخطائنا السابقة ونحن اليوم قادرون على فرض السلام المرغوب فيه.”