للسنة الثالثة على التوالي، يقودنا الدكتور الطيب بوتبقالت، أستاذ التاريخ المعاصر وعلوم الإعلام والاتصال بمدرسة الملك فهد العليا للترجمة- طنجة، ضمن هذه السلسلة التي تنشرها جريدة “24 ساعة” عبر حلقات، في رحلة رمضانية لسبر أغوار التاريخ المغربي من خلال فتح صفحات حرب الريف وارتداداتها على الصعيد الدولي.
ويسلط الأستاذ بوتبقالت في هذه الحلقات الضوء على موقف الرأي العام الدولي، من خلال عدد من المحاور، ومنها الدور الذي لعبته وسائل الإعلام الغربية، وكيف اختارت خطا تحريريا منحازا، بل تم استغلال المراسلين الصحفيين ضد ساكنة الريف المغربي.
فيما تسلط هذه الكتابات أيضا الضوء على وقوف صحافة أمريكا اللاتينية إلى جانب الريفيين، في سياق الدعاية الفرنسية التي جندت وسائل الإعلام الغربية.
الحلقة السادسة:
تحدثت صحيفة أ. بي. سي. يوم 3 مايو 1925، عن المقاومة الريفية كخطر مشترك يهدد القوتين الاستعماريتين بالمغرب، دون أن تكشف النقاب عن إبرام اتفاقية عسكرية فرنسية-إسبانية تهم الشمال المغربي. و تحت عنوان:”هجوم عبد الكريم على المنطقة الفرنسية”، تبنت الصحيفة الموقف الرسمي الفرنسي من الحركة الريفية.
ولاحظت أن الهجوم الريفي سبقته دعاية ريفية نشيطة في كل أسواق المنطقة. وهكذا وصفت أ. بي. سي. عمليات المقاومة الريفية:”يستعمل الريفيون في هجوماتهم على المنطقة الفرنسية نفس الخطة التي استعملوها في منطقتنا: يحاصرون المواقع العسكرية، دون الهجوم عليها هجوما جديا، ويكتفون بتشديد الحصار عليها، لكي يجبروا ارتالا كبيرة على التحرك في اتجاه المواقع المحاصرة، عند ذلك يتصدون لهذه الارتال التي تجد نفسها مرغمة على مقاتلتهم في ظروف صعبة.
ويبنون خنادقهم حسب الوضع الذي يلائم الخصائص التضاريسية حتى يتمكنوا من ضمان انسحابهم في حالة فشلهم”. وفي مقال كان عنوانه “فرنسا وإسبانيا في المغرب”، علق مانويل بوينو في نفس الصحيفة يوم 6 مايو 1925 على مقال نشرته قبل ذلك الصحيفة الفرنسية لانترانزيجون، ومفاده أن التعاون بين إسبانيا وفرنسا في المغرب أمر يفرض نفسه. وفي نفس اليوم ادعت جريدة السول أن “الهجوم الريفي على المنطقة الفرنسية” كان بدافع اقتصادي، لكنها أضافت :”لا يجب أن نعزو كل شيء إلى دوافع اقتصادية، لأن في الحركة الريفية عنصرا إسلاميا عاما، وشعورا وطنيا، يصعب علينا تقويمهما على وجه التحديد، لعدم وضوحهما وقلة دقتهما”.
حدث ما يشبه التأثير المتبادل بين الصحافة الاستعمارية الاسبانية ونظيرتها الفرنسية. إذ كان التعاون بين جيشي البلدين يفسح المجال أمام الصحف الكبرى الكولونيالية في فرنسا وإسبانيا لعرض نفس وجهات النظر دفاعا عن نفس المواقف، بحيث أننا نجد الصحيفة الاسبانية ديباتي تقتدي في تحليلاتها بما ورد في الصحيفة الفرنسية ليلستراسيون. أما أ. بي. سي و ليبرال فكانتا ترتكزان على ما جاء في جريدة لوتان. بينما لم تكن الصحافة الفرنسية تعتمد على الصحافة الاسبانية إلا نادرا.
وهذا شيء يبدو منطقيا ومنسجما مع ميزان القوى الكولونيالي. لأن تفوق القوات الفرنسية على القوات الاسبانية في مواجهة الريفيين هو الذي أصبح يملي على الصحافة الاسبانية استراتيجية جديدة، ويجعلها تردد وتبارك كل ما تنشره منابر الدعاية الكولونيالية التابعة لفرنسا. وقد كان للسفير الفرنسي بمدريد، دوبريتي دو لاروكا، دور فعال في تكريس هذا الوضع. فهو الذي طور علاقاته مع كبريات الصحف الاسبانية منذ بداية الهجوم المزدوج الفرنسي-الاسباني على الريف، بتقديمه كل التسهيلات لمراسليها في المنطقة الفرنسية.
كما أنه كان وراء الحملة التي خصصت خلالها الصحافة الاسبانية مقالات كثيرة ايجابية تهم مناقشات الشؤون المغربية في البرلمان الفرنسي، وكمثال على ذلك كتبت جريدة ايبوكا يوم فاتح يونيو 1925 تعليقا إخباريا، تنوه فيه بالاستعمار الفرنسي في افريقيا عامة، وفي المغرب خاصة :”إنها فرنسا بأسرها التي تبدي اهتماما بالغا بالعمل الجبار الذي أنجزه المارشال ليوطي في المغرب، و بكل ما حققته الإمبراطورية الفرنسية الشمال-افريقية، إلى درجة أن كل اعتداء على هذه الامبراطورية يخلف تأثيرا عميقا فيما وراء البرانس”.
وهو نفس الشعور الذي عبرت عنه جريدة الموندو يوم 2 يونيو 1925، وتبعتها في ذلك جريدة ليبرال التي ابتهجت لرؤية فرنسا، بعد مصادقة برلمانها، تتأهب لتسخير آلتها العسكرية قصد تدمير “قوة وكبرياء القبائل المتمردة”. وأعلنت صحيفة ايمبارسيال يوم 4 يونيو 1925 أن الوقت الحاسم قد حان وأن زمن الأزمات بين فرنسا واسبانيا بشأن المغرب قد ولى. ونشر ريمون بوانكارى، رجل السياسة الفرنسي المعروف، مقالا في جريدة لافانكوارديا الصادرة في برشلونة، تحدث فيه عن “السلام مع عبد الكريم”. وكان عنوانه:” ما زالت الدودة بداخل الفاكهة تفعل فعلها”.
وقد اعتمد بوانكارى في كتابة مقاله على دراسة أجراها ميشوبيلير، رئيس قسم الدراسات الاجتماعية التابع للإقامة العامة بالرباط، والمتخصص في شؤون الأهالي. واختتم مقاله كالتالي:”نستفيد من دراسة التاريخ لقرون عديدة، أن الريف لا يمثل دولة منفصلة عن المغرب، ولا حتى إقليما مستقلا، كما أن الريفيين لم يسبق لهم أن كونوا شعبا مدركا لوحدته السياسية، إنهم مجرد قبائل غير متجانسة وخارجة عن طاعة السلطان. (…) لنعمل على رد النظام إلى نصابه، لا يجب علينا أن نوقع سلاما من شأنه أن يمكن الدودة التي بداخل الثمرة أن تأتي عليها”.
هذا التواطؤ بين الصحف الفرنسية والإسبانية، الذي تجلى في تغطيتها للعمليات العسكرية في الريف، كان يعرف في بعض الأحيان نوعا من الارتجاج. ومرد ذلك إلى كون الصحافة الفرنسية تتمتع بحرية أوسع بالمقارنة مع الصحافة الاسبانية التي كانت تعاني من رقابة شديدة وهشاشة نسبية، ناهيك عن ميزان القوى لصالح فرنسا، وهكذا هاجمت الصحيفة الاسبانية ديباتي، لأول مرة مع بداية شتنبر 1925، الصحيفة الفرنسية لوماتان في مقال عنونته:”شؤون مغربية”، جاء فيه:”ليس من المنصف أن يعاملنا الفرنسيون كأوراق بقدنوس لإعداد وجبة حساء بعدما أخذوا خبزنا”.
وخصصت أ. بي. سي. مقالا جاء على صيغة بلاغ رسمي اتسمت لهجته بالسخط، وكان حول ما أسمته الصحيفة ب”الأخبار الكاذبة”، ردت فيه على الصحافة الإنجليزية و كذلك على بعض الصحف الفرنسية:”انتفاضات شعبية، عصيان وتمرد في الجيش، انهزامات إسبانية في المغرب، انتصارات باهرة حاسمة حققها عبد الكريم ضد قواتنا، كل هذه الأخبار جمعها ونشرها أناس يعيشون يوميا إلى جانبنا. (…) نتمنى، أن تكون حرية إصدار الأحكام فيما تتعلق بشؤوننا الخاصة، وبكل هذا الحماس، من الآن فصاعدا في حدود التحفظ الذي تدفعنا إليه رعاية مصالحنا العامة وسمعة بلدنا.”
كانت الدبلوماسية الفرنسية تتحرك في كل مرة يشهد فيها الرأي العام الاسباني نوعا من الارتعاش، ويسجل فيها عدم رضاه عن سير العمليات العسكرية المشتركة في الريف، كما أن المبادرات الدبلوماسية الفرنسية كانت تتخذ كلما تدهور التعاون الفرنسي الاسباني بشكل عام. وقد وضع “صندوق خاص” رهن إشارة السفارة الفرنسية بمدريد قصد تطوير وتدعيم الدعاية الفرنسية بإسبانيا.
وبعد المعارك الطاحنة التي دارت في صيف 1925 والخسائر الفادحة التي تكبدتها القوات الاسبانية على يد الريفيين، ظهرت تناقضات واضحة في تحليلات الصحف الاسبانية. وحتى على مستوى الرقابة صدرت تعليمات صارمة عن الجنرال جوردانا تزامنا مع أوامر كانت تتسم بالمرونة صادرة عن الجنرال بريمو دى ريبرا. وكأن هذا الأخير يهيئ الرأي العام الاسباني لقبول فكرة انسحاب عام محتمل من المغرب.
ولما لاحظت السفارة الفرنسية بمدريد هذه التقلبات والترددات التي ميزت تحليلات الصحافة الاسبانية، وكان شتاء 1925 وشيكا، بعثت بتقرير في الموضوع إلى وزير الشؤون الخارجية بباريس. ومن ضمن ما جاء في التقرير:”في هذه الحالة، واعتبارا للعلاقات التي وطدتها السفارة مع الصحافة، والوسائل التي زودتم بها، معاليكم، هذه السفارة والتي سمحت لها بتجديد الاعتمادات المفتوحة لمدة ثلاثة أشهر، فإنه أصبح بإمكاننا القيام بنشر الأفكار التي نود ترجيحها عبر مجموعة من الصحف. ولنا الآن أصدقاء مستعدون للامتثال لتوجيهاتنا بدون أن تؤدي كتاباتهم إلى ايقاظ الحساسيات. فإذا كانت الآراء متذبذبة في اسبانيا، فإن أحداث المغرب التي لم تتضح بعد نتائجها ربما تجعلنا نحن كذلك أمام صعوبة الاختيار الحاسم لخط سياسي معين”.
لكن مع بداية 1926، عاد التفاؤل الى صفحات الجرائد الاسبانية. وكان الحفاظ على خطة التعاون العسكري الفرنسي-الاسباني هو السر في عودة هذا التفاؤل. عندئذ تسابقت الصحف إلى التبشير بانتصار قريب للجيش الكولونيالي في الريف. وتحت عنوان:”فرنسا واسبانيا في المغرب/قبل النصر النهائي”، نشرت كوريسبوندانسيا ميلتار يوم 29 مارس 1926، قبل محادثات وجدة بأسبوعين، مقالا تطالب فيه الريفيين بتقديم مقترحات للسلام، وتعلن فيه لجمهورها أن فرنسا واسبانيا تتحركان في المغرب، بموجب اتفاق تام بينهما. وقبل أسبوع على لقاء وجدة، عبرت الحكومة الاسبانية عن ارتياحها الكامل للطريقة التي عالجت بها الصحافة أحداث المغرب.
ونشرت صحف مدريد يوم 10 أبريل 1926 بلاغا صادرا عن مجلس الرئاسة بتاريخ 9 أبريل، تقول إحدى فقراته:”إن الحكومة تجدد للصحافة امتنانها للطريقة اللبقة والروح الوطنية التي ميزت معالجتها للقضية المغربية، وهو الشيء الذي ساهم في تعزيز سلطة الحكومة، وساعد على تحفيز الرأي العام”. وحث البلاغ الصحافة على التزام التحفظ والانضباط:”الإعلان عن التواريخ والأماكن والأسماء، وشرح الأهمية والخطة المتبعة وتقويمها أو إبداء الرأي بصدد المباحثات والعمليات المحتملة، هو شيء غير مفيد؛ قد يثير الفضول فقط أو يسبب في تعاليق يتجاهلها مسرورا الجمهور الناضج الذي يتوق إلى تحقيق نتائج مرضية. وهذا هو المهم”.
وفعلا كانت الصحافة الاسبانية في أغلبيتها الساحقة لينة العريكة، وتعاملت مع حرب الريف وفقا لما كانت تمليه عليها القيادة الكولونيالية من مواقف واتجاهات.
ويضيف بلاغ الحكومة الاسبانية في هذا المضمار:”إن الحكومة تعتقد بكل انصاف أنها تستحق نيل ثقة الرأي العام في معالجتها للقضية المغربية التي كانت دائما تشغل بالها، والتي تعتبرها الآن دخلت في مرحلة أكثر إيجابية من أي وقت مضى. إن هدف الحكومة الوحيد هو جني ثمار المجهودات العسكرية المبذولة، والتضحيات التي قدمها المواطنون، من أجل إهدائها للبلاد كخدمة جديدة تم القيام بها”.
لزمت الصحافة الاسبانية الصمت بشأن الموضوعات التي أثارها البلاغ الحكومي، وحصل إجماع في الأوساط الإعلامية على الالتزام بالتعليمات الرسمية. وكان الكل ينتظر بفارغ الصبر الإعلان عن هزيمة الريفيين.