يقدم المقال الذي كتبه المحلل محمد شقير تحليلًا معمقًا للحادثة التي أثارت توترًا دبلوماسيًا بين الجزائر ومالي، وهي إسقاط الدفاعات الجزائرية لطائرة مسيرة مالية. يتجاوز المقال السرد الإخباري ليربط الحادثة بسياقات سياسية وإقليمية أوسع، مبرزًا أبعادها الجيو-استراتيجية في منطقة الساحل الإفريقي. فيما يلي قراءة تحليلية للمقال، مع التركيز على النقاط الرئيسية ودلالاتها:

الخبير في العلاقات السياسية، محمد شقير
1. إطار التوتر الثنائي: اتفاق الجزائر وصراع النفوذ
يؤطر شقير الحادثة ضمن سياق العلاقات المتوترة بين الجزائر ومالي، التي تفاقمت بعد تراجع مالي عن تطبيق اتفاق الجزائر للسلام (2015) مع حركات الأزواد. يبرز المقال الدور الجزائري المحوري كراعٍ لهذا الاتفاق، والذي يُنظر إليه كجزء من استراتيجية الجزائر لتكريس نفوذها الإقليمي في الساحل. إلا أن المجلس العسكري المالي، بقيادة عاصيمي غويتا، يرى في الوضع الجديد فرصة لفرض السيادة الكاملة على المناطق الشمالية، مستفيدًا من انسحاب القوات الفرنسية والأممية، ودعم روسي وصيني. هذا التحول يعكس، وفق المقال، تصادمًا بين رؤية الجزائر للحل السياسي عبر الحوار، ورؤية مالي العسكرية لفرض السيطرة. إسقاط الطائرة المسيرة، إذن، ليس مجرد حادث عسكري، بل تعبير عن هذا الصراع على النفوذ والمصداقية.
الدلالة: المقال يكشف عن توتر بنيوي في العلاقات الثنائية، حيث ترى الجزائر في تراجع مالي عن الاتفاق إهانة لهيبتها الإقليمية، بينما تسعى مالي لاستعادة سيادتها، حتى لو أدى ذلك إلى تصعيد دبلوماسي.
2. السياق الإقليمي: تغير موازين القوى
يوسع شقير التحليل ليشمل التحولات الإقليمية التي شجعت مالي على تبني مقاربة عسكرية. من أبرز هذه التحولات انسحاب القوات الفرنسية (2022) وعجز الأمم المتحدة عن ملء الفراغ، إلى جانب الدعم الروسي (طائرات ومروحيات) والصيني (مدرعات). كما يشير إلى التحالف الثلاثي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، الذي عزز موقف مالي في مواجهة تهديدات خارجية، بما في ذلك ضغوط دول “إيكواس”. هذه العوامل، حسب المقال، أعطت المجلس العسكري ثقة لتحدي اتفاق الجزائر والسعي للسيطرة على إقليم الأزواد.
الدلالة: الحادثة تُظهر كيف أعادت التغيرات الجيو-سياسية في الساحل تشكيل تحالفات وقوى النفوذ. مالي، بدعم خارجي، تحاول فرض واقع جديد، بينما تحاول الجزائر الحفاظ على دورها التقليدي كوسيط وفاعل إقليمي.
3. البعد الدبلوماسي: خطاب السيادة والتدخل
يسلط المقال الضوء على الخطاب الدبلوماسي الحاد بين الطرفين. الجزائر تؤكد التزامها باتفاق السلام وترفض تصنيف حركات الأزواد كإرهابية، معتبرة ذلك محاولة مالية للتهرب من التزاماتها. في المقابل، تتهم مالي الجزائر بالتدخل في شؤونها الداخلية، مستخدمة خطاب السيادة لتبرير موقفها. تصريحات الخارجية المالية، التي تتحدث عن “نزعة أبوية” جزائرية، تعكس رفضًا لما تراه هيمنة إقليمية. إسقاط الطائرة المسيرة، وفق المقال، أصبح نقطة اشتعال لهذا الخلاف، حيث تبرر الجزائر فعلها بحماية مجالها الجوي، بينما تنفي مالي اختراق الطائرة لحدودها.
الدلالة: الخطاب الدبلوماسي يكشف عن حساسيات عميقة. الجزائر تتمسك بدورها كراعٍ للسلام، بينما تستخدم مالي خطاب السيادة لتعزيز شرعيتها الداخلية والخارجية، مما يعقد إمكانية الحوار.
4. الأبعاد الدولية: رسائل متعددة الأطراف
يذهب المقال إلى أبعد من الإطار الثنائي، مشيرًا إلى أن إسقاط الطائرة المسيرة (تركية الصنع) يحمل رسائل موجهة لأطراف دولية. أولًا، لتركيا، التي توسع نفوذها في الساحل عبر مسيراتها وتعاونها العسكري مع دول المنطقة. الجزائر، حسب شقير، ترى في هذا النفوذ تهديدًا لموقعها، خاصة مع تراجع النفوذ الفرنسي. ثانيًا، للمغرب، الذي يمتلك مسيرات تركية مشابهة، حيث يمكن قراءة الحادثة كتحذير عسكري وسياسي للرباط. المقال يلمح إلى أن الجزائر تسعى لإثبات قدراتها الدفاعية وقوتها في مواجهة أي تهديدات محتملة من خصوم إقليميين.
الدلالة: إسقاط الطائرة ليس مجرد رد فعل عسكري، بل رسالة استراتيجية تهدف إلى ردع أطراف مثل تركيا والمغرب، مع تعزيز صورة الجزائر كقوة إقليمية قادرة على حماية مصالحها.
5. الصراع على الساحل: منافسة القوى الجديدة
يختم المقال بربط الحادثة بالصراع الأوسع على النفوذ في الساحل، حيث تتنافس قوى مثل روسيا (عبر فاغنر)، تركيا، والمغرب لملء الفراغ الذي تركته فرنسا والولايات المتحدة. الجزائر، كقوة إقليمية تقليدية، تجد نفسها في مواجهة تحديات جديدة، خاصة مع تزايد الدور الروسي الذي يدعم المجلس العسكري المالي. المقال يشير إلى توجس الجزائر من هذا الدور، كما يعكس استياءها من التعاون التركي-المالي، الذي يُنظر إليه كمحاولة لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة.
الدلالة: الساحل أصبح ساحة تنافس جيو-استراتيجي معقدة، حيث تسعى الجزائر للحفاظ على نفوذها التقليدي في مواجهة قوى صاعدة، مما يجعل حوادث مثل إسقاط الطائرة محطات رمزية في هذا الصراع.
يقدم مقال شقير قراءة متكاملة تربط الحادثة بسياقاتها المحلية، الإقليمية، والدولية. أسلوبه تحليلي ومنظم، يعتمد على سرد الوقائع مع تفسير دلالاتها السياسية والاستراتيجية. ومع ذلك، يمكن ملاحظة ميل طفيف للتأكيد على المنظور الجزائري، حيث يُبرز استياء الجزائر ودورها كراعٍ للسلام، بينما يُصور الموقف المالي كتحدٍ لاتفاق الجزائر دون الخوض بعمق في الدوافع الداخلية لمالي، مثل الضغوط الشعبية لاستعادة السيطرة على الشمال. كما أن إشاراته إلى المغرب تبدو افتراضية إلى حد ما، حيث تعتمد على تحليلات غير مدعومة بأدلة مباشرة في النص.
الخلاصة: المقال نجح في إبراز أن إسقاط الطائرة المسيرة ليس حدثًا معزولًا، بل جزءًا من صراع أعمق على النفوذ في الساحل، يتجاوز الخلاف الثنائي ليشمل أطرافًا دولية وإقليمية. الحادثة، كما يصورها شقير، تعكس هشاشة التوازنات في المنطقة وتعقيدات التعامل مع تحولاتها السياسية والعسكرية.