المهدي عربة
العيدُ كما أراده الشرع، ليس طقسا للتفاخر، ولا عادة موسمية تُمارس اتّباعًا للناس، بل هو شعيرة ربّانية تُستحضَر فيها النية، والطاعة، والتقرب إلى الله.
الأضحيةُ ليست لحمًا يُعلّق، ولا شواءً يُبخر، بل عبادة يتطهّر بها القلب قبل أن يُسفك الدم، ويُبتغى بها وجه الله قبل أن يُطلب بها وجه الناس.
لكن، ويا للأسف، فقد انقلبت المفاهيم، واستحالت الشعيرة عند فئة عريضة من الناس عادة اجتماعية، أو مهرجان مظاهر، لا يكتمل العيد عندهم إلا بوجود الكبش، ولو جاء تحت مسمى “عقيقة” أو “صدقة”…
يتنافسون في “بولفاف”، ويؤجّلون الكراء، ويستدينون بثقة، فقط كي لا يُقال عن أحدهم: “ما ذبحش!”.
إنه الخوف من نظرة المجتمع، لا من سؤال المولى . هو القربان للمظاهر، لا لله.
وما يُثير الأسى أن هذه الفئة لم تُحرّكها التوصية الملكية الحكيمة التي دعت الناس إلى الرأفة بأنفسهم، وإلى تجاوز شعيرة الذبح هذا العام، بالنظر إلى الضيق والغلاء.
فحتى حين دعانا الملك، لا بإجبار، بل بحكمة وتبصّر، إلى الحفاظ على المخزون الحيواني، أصمّت الفئة ذاتها آذانها، وبقيت تراود نفسها بأضحية تُذبح، ولو خالف ذلك العقل والواقع.
وما كان لهذا الواقع أن يكون، لولا أن السياسات الحكومية أوصلتنا إليه بتراكم الأخطاء وتفشي الارتجال؛ إذ تُرك القطاع الفلاحي، وخصوصًا تربية القطيع، نهبًا للجفاف وسوء التدبير، وزُجّ بالدعم في جيوبٍ معدودة لا يُعرف إن كانت الأحق به، فتسلّمه البعض، لا ليستعين به على التوازن والاستقرار، بل ليحوّله إلى فرصة للربح الجشع، فباعوا المواشي بأثمان فاحشة، كأنهم لم يُدعَموا، وكأنّ الدولة لم تُنفق.
فالدعم لم يكن شاملًا، ولا عادلًا، ولا خاضعًا لرقابة تُلزم المتلقّي بالحدّ الأدنى من الأخلاق الاقتصادية.
وما الفائدة من دعم ينتهي بين أيدي قِلّة، ثم يُفرَغ من محتواه في سوق لا تعرف الرحمة؟
إنها سياسة لم تخطئ فقط في توجيه الدعم، بل في فلسفة التدخل ذاتها، إذ ما نفع دعم لا يُوجَّه لصغار المربين، ولا يُراقَب، ولا يُحمل على غايات اجتماعية واضحة؟
إن القربان في شعيرتنا الدينية ركنٌ أساسي ومهم لا يُمكن التنازل عنه أو تقليله، فهو عبادة جامعة، وليست مجرد طقس اجتماعي. لكنّ إحياء الشعيرة وحفظ قدسيتها يتطلب وعياً وفهمًا عميقًا لما تعنيه الطاعة في ظل الظروف الراهنة، فلا تتحوّل إلى مظهر يتنافس فيه الناس على الكثرة والترف، بل تبقى ذبيحة لله، تقرّبًا وطاعة.
أمام هذا الخلل، كان لا بد من تدخّل أعلى، لا يُملي، بل يُرشد؛ لا يُزايد، بل يُوازن.
وقد جاءت التوصية الملكية في سياقها الأخلاقي العميق، لا لتُلغي الشعيرة، بل لتذكّر الناس أن القربان لا يُقبل إلا حين تتهيأ له القدرة، وأن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها.
لم يكن النداء دعوة لإلغاء الطاعة، بل نداء للعقل، حتى لا تتحوّل الطاعة إلى عبء، ولا تُختزل الشعيرة في اللحم والدخان.
لقد كانت تلك الكلمة العاقلة ترميمًا لما تصدّع بين الناس والدولة، وتصحيحًا لبوصلة الأولويات في زمن اختلط فيه الدين بالمظاهر، والتقوى بالتقاليد.
فمن لم يقدر على القربان، لا إثم عليه، ومن قدر، فليُضحِ في هدوء المؤمنين، لا في صخب المتفاخرين.
وهكذا، تجلّت المؤسسة الملكية وهي تُخاطب الشعب بحكمةٍ تجمع بين الدين والواقع، وتُوازن بين الحرص على الثروة الوطنية وواقع المواطنين الاقتصادي والاجتماعي.
فكانت التوصية خير دليل على رؤيا قيادية تُعلي قيمة التضامن، وتراعي حدود الطاعة، وتحافظ على مصلحة الوطن والمواطن.